معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1853

عالم تافه جداً .. 

حجم الخط

أ. د. محمد طاقة

نحن نعيش اليوم في عالم تافه إلى حدٍ لايصدق ، عالم اصبحت فيه ثقافة التفاهة تهيمن على الحياة اليومية ، وتحكم العقول ، وتحدد مسارات المجتمعات .

ان نظام التفاهة والرداءة والانحطاط يتيح لمحدودي الفكر والاخلاق والشواذ ان يصبحوا قادة الرأي ، واصحاب السلطة ، بل يصنع منهم رموزاً اجتماعية وثقافية .

في هذا النظام ، يمكن لشخص جاهل يتاجر بالمخدرات ، ويمارس الرذيلة ، ويستغل نفوذه في السرقة والفساد ، ويعزز الطائفية والعشائرية ، ثم يصبح بعد ذلك قدوة يحتدى بها في المجتمع ، في حين يقصى اهل الفكر والنزاهة ، ويحاصر المثقفون والمبدعون .

في العراق ، كما في كثير من دول العالم ، باتت التفاهة هي التي تحكم المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإعلامي والثقافي .

لا وجود اليوم للعلم او التفكير العقلاني ، بل يتم تهميشهما لصالح الرداءة السطحية .

تسللت التفاهة إلى السلطة ، فافسدت السياسة ، ونهبت الاقتصاد ، وسممت الثقافة ، وحولت الإعلام إلى اداة لنشر الجهل .

ولم يعد الإعلام صوت الحق ، بل صار سلاحاً في يد التافهين ، يستخدمونه لتوجيه الرأي العام ، والتلاعب بعقول الشباب ، حتى غدت المفاهيم مقلوبة ، الفضيلة تُدان ، والرذيلة تُحتفى بها ، والاخلاق ينظر اليها كقيود متخلفة ، في حين يُرَوجْ للانحلال والانحطاط كتحررٍ وحداثة .

ان ثقافة التفاهة ليست مجرد حالة عابرة ، بل هي منظومة متكاملة تدفع بالمجتمع نحو الحضيض .

التافهون هم من يحددون الأولويات ، وهم من يرسمون معالم المستقبل . اصبح النجاح يقاس بعدد المتابعين على مواقع التواصل ، وليس بالإنجاز الحقيقي ، شاشات التلفزة ووسائل الاعلام الاكترونية لم تعد تروج للقيم والعلم ، بل تصنع من الجهلاء المبتذلين ( نجوماً ) يُسخر لهم كل شيء ليصبحوا قدوة للأجيال القادمة .

لقد أتاحت وسائل الإعلام الحديثة ، لا سيما شبكات التواصل الاجتماعي ، للتافهين فرصة الظهور والانتشار ، واصبحت المنصات الرقمية ساحات لترميز الجهل والسطحية .

مشاهد ( السوشيال ميديا والفاشنيستات ) واصحاب المحتوى التافه والهابط يتصدرون المشهد ، بينما يدفع بالمفكرين والمثقفين إلى الظل ، فلا يسمع لهم صوت ، تُسخر هذه الأدوات لاعادة تشكيل وعي الناس ، لخلق حالة من التطبيع مع الابتذال والانحطاط ، بحيث يصبح التفاعل مع التفاهة أمراً مألوفاً ومقبولاً ، بل أسلوب حياة .

نحن نعيش في عصر طغت فيه المادة على كل شيء سوي ومعنوي ، فصار المال اهم من الوطن ، وأعلى من الشرف والكرامة .

تحول الدين إلى وسيلة للارتزاق والسيطرة على العقول ، فبدلاً من ان يكون مصدر الهام وتهذيب للنفوس ، بات وسيلة للتخدير والتجهيل .

عندما ترى مئات الألاف يتبعون شخصية تافه ، ويقدسونها دون تفكير ، ويدافعون عنها باستماتة تدرك تماماً مدى الانحطاط الذي وصل اليه المجتمع .

ان التافه عندما يمنح سلطة ، فإنه يعتقد انه اكثر فهماً من غيره ، لذا لايقبل النقاش ، ولا يسمح لاي صوت مغاير بالظهور .

لذا فان الحوار مع التافهين عبث لاطائل منه ، لانهم قادرون على استدراجك إلى مستواهم ، ثم هزيمتك بخبرتهم في النقاش السخيف .

لقد فهمنا تفاهة الحياة ، وانحطاط النفس البشرية ، حتى باتت الحياة في ظل هذا الواقع مزعجة ومستفزة .

ان المثقف الحقيقي ، عندما يجد ان الغباء والتفاهة قد تفشيا في المجتمع ، فانة يختار العزلة المؤقتة ، ليس لإنه انطوائي ، بل لانه يرفض ان يُنهك في جدالات عبثية مع السطحيين ، وكما قال ديستويفسكي (( جرب ان تظل وحيداً لفترة ، ستجد ان البشر بلا اي فائدة حقيقية سوى إنهاكك في تفاهة سطحية لمشاكلهم النفسية طوال الوقت )) .

ان العزلة ليست هروباً ، بل فرصة لاعادة التفكير ، ولانقاذ ما يمكن انقاذه من هذا الواقع المرير .

وكما قال الفيلسوف الكندي ( الآن دو نو ) : (( لقد حسم التافهون المعركة لصالحهم ، لقد تغير الزمن ، لم يعد زمن القيم والمباديء ، بل زمن الرداءة والانحطاط ، فالتافهون قد امسكوا بكل شيء ، واحكموا قبضتهم على السلطة ، والاقتصاد والثقافة ، والإعلام .

عند غياب القيم والمباديء الراقية ، يطفوا الفساد ، ويتحول الانحطاط إلى ذوق عام والاخلاق الى موضة قديمة )) .

نحن نعيش في زمن يهيمن فيه الصعاليك والجهلة ، حيث تكافأ الرداءة ، ويسحق الأبداع ، ويقصى اصحاب العقول الحرة .

لم يعد معيار النجاح هو الكفاءة ، بل القدرة على التسلق فوق اكتاف الآخرين ، واستغلال النفوذ ، وتقديم الولاء الاعمى لمن هم اعلى .

لم تكن التفاهة نتيجة طبيعية لتطور المجتمعات ، بل هي تفاهة مخططة ، هناك نظريات ترى ان الترويج للتفاهة ليس عشوائياً ، بل جزء من استراتيجية مدروسة تتبعها القوى المهيمنة ( سواء كانت دولاً كبرى ، او نخباً مالية وإعلامية ) لإبقاء الشعوب في حالة من الغفلة واللاوعي .

فبدلاً من ان ينشغل الناس بالتفكير في قضايا مثل العدالة الاجتماعية ، والفساد ، والاستقلال الاقتصادي ، والتحرر ، يتم إغراقهم في قضايا تافهه ، مثل حياة المشاهير ، والترفيه السطحي ، والنزاعات الطائفية ، والنقاشات العقيمة على مواقع التواصل الاجتماعي .

التفاهة هي ليست صدفة بل هي اداة استخدمتها الصهيونية العالمية والمنظومة الرأسمالية كوسيلة للهيمنة .

والراسمالية هي التي صنعتها ، لان الرأسمالية لا تهتم بما هو نافع او ذو قيمة ، بل تهتم بما يحقق لها ارباحاً ، والمحتوى التافه يحقق انتشاراً واسعاً لانه سهل الاستهلاك ، ولا يتطلب تفكيراً عميقاً .

لذلك يتم الترويج له على حساب المحتوى الجاد الذي يوقض وعي الجماهير ويدفعها للمطالبة بحقوقها .

المنظومة الرأسمالية تدرك تماماً ان نشر التفاهة يضعف المجتمعات ، ويجعلها اكثر طوعية ، وأقل قدرة على المقاومة ، لذلك فان مواجهة التفاهة ليست مجرد معركة ثقافية ، بل هي معركة وجودية تهدف إلى استعادة الوعي واعادة بناء منظومة قيمية تحترم العقل والفكر ، بدلاً من تقديس الابتذال والسطحية ..

عمان

15/3/2025

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *