أ. د. محمد طاقة
يُعد الفقر من أبرز الظواهر الاجتماعية والاقتصادية، التي شكّلت وما زالت تشكِّل تهديداً مباشراً للاستقرار البشري والتنمية المستدامة. وبالرغم من التقدم الهائل في الانتاجية والتكنولوجيا والثروة المادية عالمياً ،
فإنّ أكثر من نصف سكان العالم يعيشون في ظروف لا تضمن لهم الحد الأدنى من العيش الكريم ، هذا التناقض لا يُمكن تفسيره بمعزل عن طبيعة النظام الرأسمالي العالمي ، الذي لا يُوزِّع الثروة بشكل عادل ، بل تتركز في يد قلة أوليغارشية تتحكم بالمال والسلطة معاً .
إنّ الفقر في جوهره ليس مجرد حالة عرضية أو نتيجة طبيعية لقصور بعض الدول النامية ، بل هو مشروع ممنهج ضمن البنية الرأسمالية العالمية ، التي تسعى لإدامة التبعية في العالم الثالث ، إذ تتركز الموارد الطبيعية الاستراتيجية من نفط وغاز ومعادن نادرة إضافة إلى مواقع الجيوسياسية الحيوية ، فكلّما تعمّق الفقر في هذه الدول ، إزدادت قابليتها للاستغلال ونهب ثرواتها ، وأصبح المجتمع أكثر هشاشة أمام التدخلات الخارجية . وبذلك أنّ الفقر لا يمثل حرماناً فحسب ، بل يشكِّل آلية سياسية واقتصادية لإدامة السيطرة الاستعمارية الحديثة ، ويترجم عملياً في مظاهر التخلف ، الأمية ، البطالة ، وغياب العدالة الاجتماعية ما يفتح الباب أمام انهيار البنى التحتية للأمن المجتمعي وانتشار الجريمة والفساد وانتهاك صارخ لحقوق الانسان.
يتضح أنّ الفقر ليس ظاهرة طبيعية ، بل نتيجة مباشرة لسياسات النظام الرأسمالي
االعالمي. ومع إزدياد الفقر تتعمَّق الفوارق الطبقية ويتجذّر الصراع الاجتماعي ، بما ينذر بانفجارات شعبية وتغيّرات كبرى على مستوى العالم . العالم اليوم ينتشر الفقر فيه ويزداد يوماً بعد يوم ، بسبب عوامل عديدة موضوعية منها و ذاتية ، أهمها تمركز الثروة بيد مجموعة تمتلك السلطة ورأس المال ممّا أدّى إلى زيادة الفوارق الطبقية داخل المجتمعات ومع مرور الزمن يزداد الأغنياء ثراءًا بينما يغرق الفقراء في دوامة الفقر والتهميش .
فالفقر ، وكما ذكرنا عبارة عن مشروع رأسمالي ، إذ تتعمد المنظومة الرأسمالية على نشر
دائرة الفقر وخاصة في الدول النامية والتي تمتلك الثروات المهمة في العالم وتمتلك المواقع الاستراتيجية ؛ لأنّ توسيع دائرة الفقر تمكن الدول الاستعمارية والمحتلين على السيطرة على مقدرات أمور الدول الفقيرة مستغلة التخلف المنتشر عند هذه الشعوب
كون الفقر يؤدّي إلى التخلف والأمية وانتشار الأمراض بين صفوف الفقراء ، وعدم مواكبة التطورات التكنولوجية والاجتماعية والثقافية
كون الإنسان الفقير الذي يعيش على دخل يومي لايؤهله لتوفير جميع مستلزمات الحياة الكريمة . يقدر البنك المركزي أنّ نحو (838)مليون إنسان يعيشون في الفقر المدقع أي لا يتجاوز دخله اليومي عن ثلاث دولارات وفق تقديرات عام (2022) أي ما نسبته حوالي (10%) من سكان العالم البالغ عددهم (8)مليار نسمة تقريباً . وعند توسيع النظرة إلى من يعيشون على أقل من (7) دولار يومياً ، نجد أنّ النسبة تصل إلى (47%) من سكان العالم أي ما يقارب (3،7-4)مليار إنسان هذا يعني أنّ أكثر من نصف سكان الكوكب (60%) تقريباً لا يملكون دخلاً يكفي لتغطية احتياجاتهم الأساسية من غذاء وسكن وتعليم ورعاية صحية . وفي عام (2023)بلغ معدل الفقر بين العاملين إلى (7%) عالمياً ما يعني أنّ نحو أكثر من (300)مليون عامل يعيشون في حالة فقر بالرغم من كونهم يعملون .
إنّ الفقر والبطالة وجهان لعملة واحدة كون الفقر يُولِّد البطالة ، غياب التعليم الجيد وسوء التغذية وانعدام المهارات يؤدّي إلى عجز الأفراد عن دخول سوق العمل ، أو حصرهم في أعمال غير منتظمة منخفضة الأجر ، كما أنّ البطالة تُولِّد الفقر ، هذه الحلقة المفرغة تجعل الفقر ليس مجرد نقص في الدَّخل ، بل حالة حرمان مركبة تشمل التعليم والصحة والكرامة والأمن الاجتماعي.
المنظومة الرأسمالية التي تقود العالم اليوم تقوم على مبدأ استغلال الإنسان لأخيه الإنسان من أجل تحقيق أعلى معدلات من الأرباح ، ويظهر دورها في تكريس الفقر عبر التحكم بالثروات العالمية ، وتعمل على تعميم التبعية الاقتصادية عبر الديون ، وشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ، وفرض سياسات تقشفية على الدول الفقيرة وتضعف قدراتها في التعليم والصحة والخدمات . وتسعى على إدامة الفقر كأداة للسيطرة فكلما زادت نسبة الفقراء في مجتمع ما ، زادت قابليته للاختراق السياسي والأمني ، وأصبح أكثر هشاشة أمام شراء الذمم وتفكيك النسيج الاجتماعي ، كما أنّ الفقر يتناقض جذرياً مع الإعلان العالمي لحقوق الانسان الذي ينص على حق كلِّ إنسان في العيش الكريم ، لكن الرأسمالية العالمية حوّلت هذه الحقوق إلى شعارات فيما الواقع هو عكس ذلك تماماً علماً أنّ الفقر يؤدّي إلى كوارث إجتماعية ونفسية خطيرة جداً على الأمن المجتمعي ، فهنالك علاقة طردية بين الفقر وزيادة الجريمة والسرقة والانحلال الخُلُقي وتفشي الفساد فضلاً عن سهولة شراء ذمم الفقراء من قبل الاعداء . فكلّما زاد الفقر في المجتمع زاد معه سهولة اختراقه أمنياً وسياسياً ، واذا أسقطنا كلّ ذلك إلى ما يحدث في العراق ومنذ عام (2003) عام غزو العراق فالفقر في العراق ليس فقط نتيجة ما أحدثه
الغزو الأمريكي ، بل هو عبارة عن منظومة مترابطة من ضعف الخدمات ، بطالة ممنهجة ، انهيار التعليم ، وتعطيل الدولة المدنية ،إنعدام الرعاية الصحية ، كلها تغذّي بعضها بعضاً . الإحتواء السياسي الخارجي والدولي يؤدِّي لتضخيم هذه المنظومة ، ما يجعل الفقر أداة استغلالية في اللعبة السياسية والاقتصادية ، ويُعمِّق التوتر الأمني والاجتماعي . فالفقر في العراق أخذ بالاتساع وأصبح يشكِّل تهديداً خطيراً على أمنه الاجتماعي والسياسي بسبب الاحتلال الإيراني – الأمريكي – الصهيوني والذين يمعنون بنشره فبلغت الأمية إلى أقصاها والتخلف وخاصة بعد انهيار التعليم والرعاية الصحية وضعف الخدمات المهمة .
ووفقاً للتعداد السكاني الوطني لعام (2024) بلغ عدد سكان العراق (46،1) مليون نسمة وعلى هذا الاساس فإنّ عدد الفقراء في العراق يقدر بحوالي (12) مليون نسمة أي (25%) من عدد السكان يعيشون تحت خط الفقر الرسمي ، ولكن في بعض المحافظات مثل المثنى يكون عدد الفقراء فيها حوالي نصف السكان ، وأنّ عددالعاطلين عن العمل بلغ بنحو (7)مليون شخص وبلغ عدد الأميين في العراق بنحو (5)مليون شخص .
هذه الأرقام تكشف حجم التحدي الذي يواجهه العراق أكثر من (12) مليون عراقي يعيشون تحت خط الفقر و(7) مليون عاطل عن العمل إلى جانب (5) مليون أمي يعني نصف المجتمع يعيش مرارة الحياة والحرمان . هذه الأرقام تسلِّط الضوء على الأزمة المركبة التي تجمع بين الفقر والبطالة والأمية ، وتؤكِّد أنّ المعالجة تتطلب تدخلاً
ًجريئاً على المستويين الوطني والدولي .
إنّ عملية تجاوز مشكلة الفقر عملية معقدة والحل لا يكمن في معالجة الفقر عبر المساعدات الخيرية أو القروض المشروطة ، بل عبر تغيير النظام الدولي نفسه ، نحو نظام أكثر عدالة وتوازناً ، يحقق توزيعاً عادلاً ومنصفاً للثروات ، ويضمن فرص عمل ، والتعليم ، والصحة ، والأمن لكلِّ إنسان .
عمان
في 4/9/2025