أ .دمحمد طاقة
تُعد الشهادة الجامعية العليا في المجتمعات الإنسانية وسيلة لإثبات الكفاءة العلمية والتخصص، ومفتاحاً للتطور الاجتماعي والاقتصادي . لكن في مجتمعات متخلِّفة تتحول الشهادة إلى عقدة اجتماعية ، لا سيما عندماتُصبح أداة للتفاخر والتباهي الاجتماعي أكثر من كونها وسيلة للإنتاج المعرفي .
في العراق بعد عام (2003)، إتخذت هذه العقدة شكلاً أكثر خطورة ، إذ تحوّل طلب الشهادة إلى غطاء لتغطية النقص والدونية لدى فئة تسلّطت على مقدرات الدولة بلا كفاءة ، فانشغلت بالتزوير ، والادعاء ، ما أدى إلى انهيار التعليم وضياع القيمة العلمية .
يحظى حامل الشهادة في العراق بمكانة اجتماعية واقتصادية مميزة ، اذ تُفتح له أبواب الوظائف العليا وتمنحه وجاهة اجتماعية مرموقة . هذه المكانة جعلت الشهادة موضوع حسد وغيرة ، ومصدراً للشعور بالنقص لدى من لم يحصلوا عليها . لكن بدل أنْ تكون هذه العقدة محفزاً مشروعاً للسعي العلمي ، أصبحت باباً للتزوير والالتفاف على القيم الأكاديمية خصوصاً بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام (2003) .
من أخطر ما شهده العراق بعد الاحتلال أنّ غالبية من جاءوا مع قوات الغزو لم يمتلكوا مؤهلات علمية حقيقية ، بل كانوا محمّلين بعقد النقص والحرمان التعليمي . وللتعويض عن هذا الشعور ، اتجهوا إلى شراء الشهادات من جامعات وهمية أو مشبوهة فقد كُشف مثلاً عن اكثر من (27) ألف شهادة مزورة من جامعات لبنانية، كثير منها مُنح لمسؤولين وأقاربهم بهدف شرعنة سلطتهم ، وإلى جانب ذلك انتشرت شهادات عليا ممنوحة من مؤسسات دينية في قم والنجف وطهران ، تحمل عناوين أكاديمية لكنّها في حقيقتها لا تعدو من كونها دراسات سطحية لا علاقة لها بالعلم أو التطوير المجتمعي . وبالرغم من بعض الملاحظات على النظام الوطني ، فإنّ الحقائق تشير إلى أنّ التعليم حظي بعناية ملحوظة . فجامعة بغداد وحدها ضمت أكثر من ( 34،555) طالباً عام (1983- 1984) إلى جانب المعاهد التقنية والجامعات الجديدة في المحافظات ، كما أُرسلت بعثات علمية إلى أوربا وأمريكا لنيل شهادات عليا في تخصصات الطب والهندسة والطاقة ، وقد شكّل هؤلاء الكفاءات العلمية رصيداً وطنياً حقيقياً في مجالات التنمية .
أمّا بعد الاحتلال بين عامي (2003-2007) تعرّض الأكاديميون العراقيون لحملة اغتيالات واعتقالات وتهديدات ممنهجة ، إذ قُتل أكثر من (340) استاذاً جامعياً و(446) طالباً فيما سُجل (259) أكاديمياً اغتيلوا و(72) اختطفوا و(174) أُعتقلوا حتى عام (2008).
وفي المجال الطبي قُتل (118) من أعضاء كليات الطب بينما هرب ( (18،000) طبيب من أصل (34،000) طبيب كانوا يعملون قبل الغزو ، ففي عام (2006) وحده فرّ أكثر من (3،250) أكاديمياً خارج العراق ، وقدّرت المنظمات الدولية أنّ (30%) من الكفاءات العلمية قد هجرت البلاد بحلول عام (2007)
إنّ هذا الاستهداف لم يكن عشوائياً، بل يهدف إلى تفريغ العراق من نخبه ، ليبقى عاجزاً عن التطور العلمي والتكنولوجي .
لم يتوقف الاستهداف عند قتل الأفراد ، بل طال البنية التحتية للتعليم ، تقارير الأمم المتحدة تؤكد أنّ أكثر من (85%) من مؤسسات التعليم العالي في العراق تعرّضت للنهب والسلب والحرق أو التدمير الشامل بعد عام (2003) ممّا اضطر الآلاف للهجرة إلى الخارج ، وبذلك فرغت الجامعات العراقية من كفاءاتها الحقيقية ، وحلّ محلّها أصحاب شهادات مزورة او منعدمة القيمة ، ما جعل
البلاد تعاني من نقص شديد في الكوادر العلمية . كلّ ذلك أدّى إلى تدهور مستوى المناهج الجامعية وضعف الكادر التدريسي ، إذ أصبح كثير من الأساتذة حملة شهادات بلا قيمة ويعتمدون على المال لا على البحث العلمي ، ممّا أدّى إلى تراجع البحث العلمي ، إذ لم يعد يُنظر إليه أداة لبناء المجتمع ، بل وسيلة للحصول على لقب او ترقية . كلّ ذلك أدّى إلى انتشار المكاتب التجارية لبيع الرسائل و الأطاريح ( ماجستير ودكتوراه) ، وهي ظاهرة خطيرة يديرها بعض الأساتذة أنفسهم ، إذ تُكتب البحوث مقابل المال ، وقدّرت بعض الدراسات أنّ ما بين (30%-40%) من أطاريح الدراسات العليا في العراق خلال العقد الأخير قد كُتبت عبر هذه المكاتب ، ما يجعلها بلا قيمة علمية حقيقية .
تحولّت الشهادة من رمز علمي ألى أداة للتسلط ، إذ بات بعض المسؤولين يمنحون أنفسهم ألقاب علمية ( دكتور ، أستاذ ، بروفيسور ) بلا وجه حق ، سعياً وراء سد عقد النقص الاجتماعي، هذه الظاهرة لا تعبِّر فقط عن فساد فردي ، بل عن انهيار منظومة التعليم بأكملها ، وغياب الرقابة الأكاديمية ، وتفريغ الألقاب العلمية من معناها . والنتيجة أنّ الجامعات العراقية ، التي كانت يوماً ما منارة في المنطقة ، أصبحت اليوم في ذيل التصنيفات العالمية . ففي تصنيف ( Qs)لعام (2004) لم تدخل أيّة جامعة عراقية ضمن أفضل (1000) جامعة في العالم ، وهو دليل واضح على الانهيار .
إنّ عقدة الشهادة في العراق ليست مجرد مسألة نفسية أو اجتماعية ، بل ظاهرة خطيرة ذات أبعاد سياسية واقتصادية وثقافية ، فهي تعكس انهيار منظومة القيم ، وغياب الضوابط الأكاديمية وتحوّل العلم إلى سلعة تُشترى وتُباع ، لقد دمرت هذه الظاهرة مكانة العراق العلمية ، وأفرغت مؤسساته من الكفاءات وأضعفت قدرته على مواجه تحديات العصر .
إنّ عقدة الشهادة في العراق تحوّلت بعد عام (2003) من مسألة اجتماعية إلى كارثة وطنية ، فقد قُتل العلماء و هُجِّرت الكفاءات ، ونُهبت الجامعات وزُورت الشهادات ، فيما تحولت الألقاب الأكاديمية إلى وسيلة للتفاخر لا للإبداع . النتيجة أنّ العراق ، الذي كان يملك طاقات علمية هائلة، أصبح اليوم خارج التصنيفات الجامعية الرصينة ، وخسر مكانته العلمية التي بناها خلال عقود .
إنّ استعادة العراق لمكانته العلمية تتطلّب إرادة سياسية وطنية لحماية الأكاديميين ، ومحاسبة أصحاب الشهادات المزورة ، وإعادة بناء الجامعات وفق معايير عالمية و إعادة الاعتبار للعلم قيمة عليا وليس وسيلة للتفاخر او التسلط ، فالعلم وحده قادر على كسر التبعية وفتح أبواب النهضة الحقيقية .
عمان
28/8/2025
◦