معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1853

العراق في أضعف حالاته  (( إحتلال متعدد و فساد بلا حدود )) 

حجم الخط

أ. د. محمد طاقة

 

يُعد العراق واحداً من أغنى بلدان العالم من حيث الموارد الطبيعية ، وعلى رأسها النفط والغاز ، إذ يعتمد ما يقارب 90‎%‎ من إيرادات موازنته العامة على صادرات النفط الخام ، إضافة إلى ذلك ، يمتلك العراق موقعاً استراتيجياً يربط بين الشرق والمغرب العربي ، وبين آسيا وأوربا . فضلاً عن امتلكه موارد طبيعية أخرى وأراضي زراعية خصبة ومخزون مائي مهم .

وبالرغم من كلّ هذه المؤهلات الاقتصادية ، يعيش العراق اليوم واحدة من أسوأ مراحله التاريخية على الصعيدين الاقتصادي والسياسي ، اذ يتعرض منذ عام ( 2003) إلى عملية تدمير ممنهجة لبناه التحتية وقطاعاته الانتاجية والخدمية ، وجعلته في وضع هش إلى درجة غير مسبوقة .

منذ غزو العراق في (9/4/2003) ، تعرّضت أكثر من (85‎%‎)من بناه التحتية للتدمير ، بما في ذلك الصناعة والزراعة وقطاع الخدمات

الحيوية مثل الكهرباء والماء ، فقبل الاحتلال كان العراق ينتج أكثر من (12) ألف ميغاواط من الطاقة الكهربائية بينما إنخفض الانتاج بعد الغزو لسنوات طويلة إلى أقل من نصف ذلك ، بالرغم من مليارات الدولارات التي أُنفقت بذريعة إعادة الإعمار ، كما تم تفكيك المصانع الكبرى ، وتعطيل مشاريع الري والسدود ، وإهمال الأراضي الزراعية ، ممّا أدّى إلى زيادة الاعتماد على الاستيراد حتى في المحاصيل الأساسية كالقمح والشعير .

بعد احتلال العراق ، سلّمت الولايات المتحدة وبريطانيا مقاليد السلطة فيه إلى قوى سياسية ومليشيات مرتبطة مباشرة بايران ، بهدف استكمال عملية تفكيك الدولة العراقية

ومن طريق هذه السيطرة نشرت إيران الفساد المالي والإداري والأخلاقي عبر الحكومات المتعاقبة ، وجرى نهب مئات مليارات الدولارات من أموال العراق. تشير تقديرات رسمية إلى اكثر من (450) مليار دولار. فُقدت بين عامي (2003- 2020 ) بسبب الفساد وسوء الإدارة وهي أرقام تعكس عمق النهب الممنهج لثروات البلاد ، كما تم ربط الاقتصاد العراقي بالاقتصاد الايراني عبر التبادل التجاري غير المتكافئ واستيراد الكهرباء والغاز ، في وقت كان يمكن للعراق أنْ يكون مكتفياً ذاتياً .

الوجود الايراني في العراق لم يكن وليد الصدفة ، بل جرى بموافقة أمريكية – إسرائيلية في مرحلة ما ، ضمن ترتيبات إقليمية سمحت لطهران بالتغلغل في القرار السياسي والأمني والاقتصادي العراقي . فإيران اليوم تتحكّم بالمشهد العراقي عبر المليشيات المسلحة ، وتسيطر على مفاصل الدولة العميقة ، بما في ذلك الأجهزة الأمنية وبعض الوزارات السيادية

مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بدأ

صراع أكثر وضوحاً بين المشروعين الامريكي – الصهيوني من جهة والمشروع الإيراني الفارسي التوسعي من جهة أخرى ، تصاعدت حدة هذا الصراع بعد أحداث السابع من أكتوبر عام (2023) ، إذ شنّت حركة حماس هجوماً واسعاً على الكيان الصهيوني باعتبار أنّ حماس أحد أذرع إيران في المنطقة ، تحوّل الموقف الإسرائيلي المدعوم أمريكياً إلى مواجهة مفتوحة مع طهران ، خصوصاً في ظلّ الخلافات حول المفاعل النووي الإيراني .

بدأت واشنطن وتل ابيب ، وبدعم إقليمي ، العمل على تحجيم أذرع إيران في المنطقة ، فَجَرتْ ضربات قوية لحزب الله في لبنان ، وضغط على النظام السوري الموالي لطهران وتم إسقاطه ، ثُم إضعاف الحوثيين في اليمن . بقي العراق الحلقة الأصعب ، إذ يشكَّل الحشد الشعبي وهو عملياً الحرس الثوري الإيراني في العراق الضمانة الأساسية لاستمرار النفوذ الإيراني . في حين أصبح العراق خط الدفاع الأخير لحماية النظام الإيراني من السقوط .

اليوم يعيش العراق أسوء مراحله السياسية ، إذ تشتد الصراعات بين القوى الحاكمة من مختلف الطوائف والمذاهب والقوميات من دون أيَّة رؤية وطنية أو مشروع إنقاذ ويضاف إلى ذلك التفريط بأجزاء من السيادة الوطنية ، كما حدث في قضية ( خور عبد الله ) الذي مثّل مثالاً صارخاً على خضوع الحكومة الحالية لإملاءات خارجية ، ما أثار موجة غضب شعبية واسعة ، كما بدأت التحالفات السياسية بين الأكراد والسنة والشيعة بالتفكك وبدأت واشنطن ودول الخليج العربي والدول الاوربية تعيد النظر في دعمها لحكومة تابعة بالكامل لايران . مرّ العراق بأحداث مريرة منذ عام (2003 حتى عام 2025) وتكبّد خسائر جسيمة ففي عام (2003) الغزو الأمريكي البريطاني للعراق واحتلال بغداد ثُم تبديد ما يعادل ( 300) مليار دولار وإزهاق أرواح نحو (150) ألف شهيد مدني وكذلك حلّ الجيش وتفكيك مؤسسات الدولة ومن العام ( 2004-2007) حدث العنف الطائفي والحرب الأهلية وقُدِّرت الخسائر المالية نحو (40) مليار دولار و(250) ألف قتيل وجريح وتهجير (4)ملايين شخص ومن العام (2008- 2010) حصل استقرار نسبي مع فساد مستمر وكانت الخسائر المالية نحو (20)مليار دولار وقدّم العراق آلاف الضحايا وتميّزت هذه الفترة بإبرام عقود وهمية وإهدار الأموال . وفي عام (2011) إنسحبت القوات الأمريكية من العراق

ممّا سبّب فراغ أمني ساعد المليشيات على التغلغل . ومن عام (2014-2017) اجتياح داعش وقُدِّرت الخسائر المالية ب (100) مليار دولار وأكثر من (50)ألف قتيل وثلاثة ملايين نازح ودمار واسع في المدن وهذا كان الهدف من دخول داعش إلى هذه المدن . وفي عام (2018-2019) تصاعد النفوذ الإيراني وكانت الخسائر المالية من (10-15) مليار دولار سنوياً وتوسّعت الإغتيالات والنزعات الطائفية وإحتجاجات شعبية . وفي عام (2020) أُغتيل قاسم سليماني والمهندس وكانت بداية انكشاف الصراع الأمريكي- الإيراني . ومن عام (2021- 2022) ظهرت أزمات اقتصادية وارتفاع الديون ، إذ وصل الدَّيْن العام إلى (85) مليار دولار وفي عام (2023) أحداث أُكتوبر وتداعياتها واستمرار تهريب النفط وأزمة خور عبد الله ، وفي عام (2024-2025) تصاعد الضغط الأمريكي – الأسرائيلي على إيران وبدأت الحرب بين إسرائيل وإيران وكَمُلَ ضرب المفاعلات النووية الإيرانية أمّا الحصار على إيران مازال مستمراً وتحمّلتْ إيران خسائر بسبب العقوبات والعراق يمثل خط الدفاع الأخير لإيران . عند جمع الخسائر المباشرة ( البنية التحتية ، النفط ، الصناعة ، الزراعة ، وغيرها ) مع الخسائر غير المباشرة (( تهريب الأموال ، إنهيار العملة ، خسارة الكفاءات البشرية وغيرها الكثير) فإنّ التقديرات الواقعية تشير إلى أنّ العراق فَقَدَ ما لا يقل عن (10 ) ترليون دولار منذ عام (2003) حتى هذا اليوم . ممّا تقدّم بات واضحاً أنّ العراق اليوم دولة محتلة عملياً من ثلاثة قوى (( الولايات المتحدة ، والكيان الصهيوني ، وإيران ،)) والأخيرة هي الأكثر حضوراً وتأثيراً على الأرض

تستغل إيران الورقة الطائفية والشعائر الدينية كأداة لتقسيم الشعب وإضعافه ، وتحويل قضيته الوطنية إلى صراع مذهبي داخلي ، وهي مستعدة ( كما أظهرت الأحداث ) للتضحية بنصف الشعب العراقي إنْ اقتضت مصلحتها ذلك . وعليه فإنّ من حق الشعب العراقي وواجبه أنْ ينتفض لتحرير بلده وقراره السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني ، وإستعادة سيادته وثرواته المنهوبة ، وتأسيس نظام وطني يُعيد بناء الدولة على أُسس الاستقلال والكرامة .

العراق بالرغم من ما يمتلكه من ثروات وموقع إستراتيجي يعيش اليوم واحدة من أخطر لحظاته التاريخية ، إذ اجتمع عليه إحتلال خارجي وهيمنة إيرانية وفساد داخلي وإنقسام سياسي وطائفي حاد ومع تزايد تضارب المصالح الدولية والإقليمية على أرضه يُصْبِح التغيير ضَرورة حتمية ليس فقط لإنقاذ العراق من الانهيار ، بل لإنقاذ المنطقة بأكملها من تداعيات إنهياره ، إنّ الخلاص لن يأتي إلاّ من وعيٍ شعبيٍ شاملٍ وإرادة وطنية حرة قادرة على كسر قيود الاحتلال والوصاية الأجنبية .

 

عمان

في 8/8/2025

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *