معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1853

كثر الكلام .. وقلت الأفعال (( أزمة العرب بين البلاغة والعجز )) ..

حجم الخط

أ. د. محمد طاقة

تُعد اللغة العربية من أغنى لغات العالم بالمعاني والدلالات ، فهي لغة ضاربة الجذور في التاريخ ، حاضنة للشعر والأدب والدين والفكر ، تمتاز بمرونة التعبير وثراء المصطلح وعمق التركيب .

إنّها لغة يمكن للكلمة الواحدة فيها أنْ تحمل معاني متعددة ، وحركة بسيطة على الحرف قد تُبّدل المعنى كلياً .

ولهذا اشتهر العرب منذ القدم بفصاحتهم وبلاغتهم وقدرتهم العجيبة على توظيف اللغة بما يخدم مقاصدهم .

لكن هذا التمكن اللغوي تحول مع الزمن من نعمة إلى نقمة ، حيث أصبح كثير من العرب ، وعلى رأسهم السياسيون وعلماء الدين ، يكثرون الكلام دون أنْ يقترن خطابهم بالفعل الحقيقي على أرض الواقع .

باتت البلاغة وسيلة للتهرب من المسؤولية وسلاحاً لتخدير الشعوب لا لتحفيزها على النهوض .

يُنظّرون كثيراً عن الحرية والوحدة والعدالة ، بينما الواقع يشهد على تواطؤ و عجز و تهاون .

رجال الدين ، يقضون الساعات في تفسير الايات واستخراج المقاصد ، ولكنهم يختلفون في التأويلات ، ويطوعون النصوص حسب اهوائهم ومصالحهم ، أمّا السياسيون ، فيكثرون من الشعارات الوطنية والدعوات إلى الوحدة ، ولكنهم في واقع الأمر غارقون في الانقسام والتبعية والفساد ، كلا الفريقين يشخّص الواقع لكنه لا يغيّره .

لقد أصبح العرب ، في معظمهم ، أسرى الكلام ، يتحدثون عن تحرير فلسطين ، ولكن منذ أكثر من سبعة عقود لم يحركوا ساكناً حقيقياً باتجاه هذا الهدف ، سوى بيانات الشجب والاستنكار .

يتحدثون عن أهمية الوحدة العربية ويجمعون على أنّها الطريق إلى القوة والاستقلال ، ولكن الواقع يشير بتناحر الأنظمة وتشرذم الاحزاب وخيانة القضايا الكبرى .

بل حتى في العراق حيث الاحتلالان الامريكي الإيراني يمارسان أبشع صنوف الهيمنة والفساد ، لا نرى من النخب سوى التصريحات والبيانات ، فيما يغيب الفعل السياسي والثقافي والعسكري الجاد على إنقاذ البلد .

لايمكن للخطابات أنْ تحرر وطناً محتلاً ولا للقصائد أنْ تهزم احتلالاً .

أنّ التظاهرات والاحتجاجات الشعبية بالرغم من أهميتها تبقى محدودة الأثر ما لم تواكبها مشاريع فعلية لتغيير موازين القوى ، تبدأ بوحدة حقيقية بين القوى الوطنية الصادقة ، وتتبلور في عمل سياسي وثقافي وميداني يضع التحرير والنهضة في سلم الأولويات .

نحن لا نقلل من تأثير العوامل الخارجية ، فالمشاريع الاستعمارية والصهيونية والإيرانية والغربية تؤدي دوراً محورياً في منع أيّ مشروع نهضوي عربي ، وتسعى دائماً لتفتيت الصف العربي وتقويض الإرادات المستقلة .

لكن الاستسلام لهذه العوامل وتحويلها إلى شماعة تُعلق عليها تقاعسنا لايليق بأمة كانت ذات يوم سيدة الأمم .

لقد شبعنا من الكلام ، ومللنا من الوعود والخطب الرنانة ، حتى وإنْ ظهرت بعض المحاولات هنا وهناك ، فإنّها تبقى ضعيفة وموسمية ، لا ترقى إلى مستوى التحديات الوجودية التي تواجه الأمة العربية ، هكذا هو حال العرب يجيدون الكلام ويقاتلون ويحررون البلاد بالكلام فهم يجيدون لغة الكلام دون أنْ يهتموا بترجمة الكلام إلى أفعال .

آن الأوان لئن ندرك أنّ الأوطان لا تُحرّر بالخطابات ، وأنّ الأمل لايصنع بالقصائد ، و الوحدة لا تتحقق بالأمنيات .

إنّ الامة العربية لا تمتلك الجرأة على تحويل كلماتها إلى أفعال ، ستظل حبيسة التاريخ ، تتغنى بماضيها المجيد بينما يسحقها حاضرها المؤلم .

المطلوب اليوم هو نهج جديد ، أنْ يتوقف العرب عن الحديث والجدل العقيم ، وأنْ يبدأوا فعلاً جماعياً ، منظماً واعياً مؤمناً عقلانياً ، وأن زمن الخطابات قد انتهى ، وأنّ من أراد الحياة لا بد أنْ يتهيأ للفعل لا للقول فقط .

 

عمان

في 3/8/2025

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *