أ. د. محمد طاقة
تُعد اللغة العربية من أغنى لغات العالم بالمعاني والدلالات ، فهي لغة ضاربة الجذور في التاريخ ، حاضنة للشعر والأدب والدين والفكر ، تمتاز بمرونة التعبير وثراء المصطلح وعمق التركيب .
إنّها لغة يمكن للكلمة الواحدة فيها أنْ تحمل معاني متعددة ، وحركة بسيطة على الحرف قد تُبّدل المعنى كلياً .
ولهذا اشتهر العرب منذ القدم بفصاحتهم وبلاغتهم وقدرتهم العجيبة على توظيف اللغة بما يخدم مقاصدهم .
لكن هذا التمكن اللغوي تحول مع الزمن من نعمة إلى نقمة ، حيث أصبح كثير من العرب ، وعلى رأسهم السياسيون وعلماء الدين ، يكثرون الكلام دون أنْ يقترن خطابهم بالفعل الحقيقي على أرض الواقع .
باتت البلاغة وسيلة للتهرب من المسؤولية وسلاحاً لتخدير الشعوب لا لتحفيزها على النهوض .
يُنظّرون كثيراً عن الحرية والوحدة والعدالة ، بينما الواقع يشهد على تواطؤ و عجز و تهاون .
رجال الدين ، يقضون الساعات في تفسير الايات واستخراج المقاصد ، ولكنهم يختلفون في التأويلات ، ويطوعون النصوص حسب اهوائهم ومصالحهم ، أمّا السياسيون ، فيكثرون من الشعارات الوطنية والدعوات إلى الوحدة ، ولكنهم في واقع الأمر غارقون في الانقسام والتبعية والفساد ، كلا الفريقين يشخّص الواقع لكنه لا يغيّره .
لقد أصبح العرب ، في معظمهم ، أسرى الكلام ، يتحدثون عن تحرير فلسطين ، ولكن منذ أكثر من سبعة عقود لم يحركوا ساكناً حقيقياً باتجاه هذا الهدف ، سوى بيانات الشجب والاستنكار .
يتحدثون عن أهمية الوحدة العربية ويجمعون على أنّها الطريق إلى القوة والاستقلال ، ولكن الواقع يشير بتناحر الأنظمة وتشرذم الاحزاب وخيانة القضايا الكبرى .
بل حتى في العراق حيث الاحتلالان الامريكي الإيراني يمارسان أبشع صنوف الهيمنة والفساد ، لا نرى من النخب سوى التصريحات والبيانات ، فيما يغيب الفعل السياسي والثقافي والعسكري الجاد على إنقاذ البلد .
لايمكن للخطابات أنْ تحرر وطناً محتلاً ولا للقصائد أنْ تهزم احتلالاً .
أنّ التظاهرات والاحتجاجات الشعبية بالرغم من أهميتها تبقى محدودة الأثر ما لم تواكبها مشاريع فعلية لتغيير موازين القوى ، تبدأ بوحدة حقيقية بين القوى الوطنية الصادقة ، وتتبلور في عمل سياسي وثقافي وميداني يضع التحرير والنهضة في سلم الأولويات .
نحن لا نقلل من تأثير العوامل الخارجية ، فالمشاريع الاستعمارية والصهيونية والإيرانية والغربية تؤدي دوراً محورياً في منع أيّ مشروع نهضوي عربي ، وتسعى دائماً لتفتيت الصف العربي وتقويض الإرادات المستقلة .
لكن الاستسلام لهذه العوامل وتحويلها إلى شماعة تُعلق عليها تقاعسنا لايليق بأمة كانت ذات يوم سيدة الأمم .
لقد شبعنا من الكلام ، ومللنا من الوعود والخطب الرنانة ، حتى وإنْ ظهرت بعض المحاولات هنا وهناك ، فإنّها تبقى ضعيفة وموسمية ، لا ترقى إلى مستوى التحديات الوجودية التي تواجه الأمة العربية ، هكذا هو حال العرب يجيدون الكلام ويقاتلون ويحررون البلاد بالكلام فهم يجيدون لغة الكلام دون أنْ يهتموا بترجمة الكلام إلى أفعال .
آن الأوان لئن ندرك أنّ الأوطان لا تُحرّر بالخطابات ، وأنّ الأمل لايصنع بالقصائد ، و الوحدة لا تتحقق بالأمنيات .
إنّ الامة العربية لا تمتلك الجرأة على تحويل كلماتها إلى أفعال ، ستظل حبيسة التاريخ ، تتغنى بماضيها المجيد بينما يسحقها حاضرها المؤلم .
المطلوب اليوم هو نهج جديد ، أنْ يتوقف العرب عن الحديث والجدل العقيم ، وأنْ يبدأوا فعلاً جماعياً ، منظماً واعياً مؤمناً عقلانياً ، وأن زمن الخطابات قد انتهى ، وأنّ من أراد الحياة لا بد أنْ يتهيأ للفعل لا للقول فقط .
عمان
في 3/8/2025