أ. د. محمد طاقة
في عالم تسيطر فيه الماكنة الإعلامية والثقافية الغربية على انتاج المعاني والمفاهيم ، تدفق علينا نحن شعوب العالم العربي، سيل من المصطلحات التي تبدو براقة وجذابة للوهلة الاولى ، حتى اصبحت هذه المفاهيم سيدة الخطاب السياسي والثقافي ، دون ان يتوقف الكثيرون ليتأملوا معناها الحقيقي ، أو ليتساءلوا عن الجهة المستفيدة من رواجها .
المشكلة لا تكمن فقط في المصطلحات بل في أنصاف المثقفين الذين يتلقفونها من الغرب باعتبارها حقائق مطلقة ، ويتعاملون معها كأنها مسلمات لا تقبل النقاش ، متناسين ان تلك المصطلحات ليست إلا ادوات ناعمة لاعادة تشكيل وعي المجتمعات ، بما يخدم المصالح الإمبريالية والرأسمالية العالمية ، التي مازالت تتحكم بمصير الشعوب ، وتعيد انتاج التبعية من بوابة (( الفكر المستنير )) .
من ابرز هذه الشعارات التي أغرق بها العالم العربي (( الديمقراطية وحقوق الإنسان )) ، تلك المفاهيم التي تم استخدامها كذريعة لتدمير دول بأكملها ، العراق مثال صارخ ، حيث تم اجتياحه واحتلاله باسم الديمقراطية ، وتفكيك دولته وجيشه ومجتمعه بذريعة حقوق الانسان ، في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تمارس ابشع الانتهاكات بحق الشعب العراقي ، و بحق شعوبها ايضاً .
لا ديموقراطية حقيقية في الغرب عندما يتعلق الأمر بفلسطين ولا حقوق إنسان حين تباد شعوب بأكملها ، بل تستخدم هذه المفاهيم كسياط تضرب بها الدول التي تقاوم الهيمنة، ويصنف كل من يعارض المشروع الامبريالي الصهيوني (( كدكتاتور أو ارهابي )) بينما يصور المستعمر (( كناشر للحرية )) .
وتحت شعار ((الإصلاح الاقتصادي)) رُوّج في العالم العربي لمصطلحين خطيرين (( الخصخصة والعولمة)) ، فرضت الخصخصة على دولنا كمفتاح للنهضة ، لكنها كانت بوابة لتجريد الدولة من أدواتها الاقتصادية وبيع ثرواتها للشركات العابرة للقارات ، تحولت الخدمات الأساسية إلى سلع وزاد الفقر والبطالة ، واختفت الدولة الاجتماعية . أما العولمة فقد وعدت بالتكامل والانفتاح ، لكنها في الحقيقة جعلت من دولنا أسواقاً استهلاكية تابعة . ومن شعوبنا مجرد عمالة رخيصة أو مستهلكين في هوامش النظام الرأسمالي العالمي، لم تكن العولمة بوابة للتطور ، بل وسيلة لتعميق التبعية واعادة انتاج التخلف .
ومن اكثر المصطلحات التي جرى التلاعب بها
(( نظرية المؤامرة )) ، حيث يتم تسفيه كل محاولة لفهم الواقع العربي كنتاج لمؤامرات فعلية تحاك ضد الامة العربية ، يتهم من يتحدث عن المؤامرة بأنه رجعي ، رافض للتطور ، مؤمن بالخرافات ، بينما الوقائع
تقول عكس ذلك . ان الذي يحدث في فلسطين والعراق وسوريا واليمن ولبنان ، هو نتاج مؤامرة كبرى تدار بادوات عسكرية وإعلامية واقتصادية ؟ كيف يمكن فهم هذا التدمير الممنهج للامة العربية دون الإقرار
بوجود مشروع دولي – صهيوني – إمبريالي ، يستهدف تفكيك المنطقة وتقسيمها واضعاف قواها الحية ؟ المؤامرة ليست وهماً ، بل واقعاً ملموساً تؤكده الاحداث ويغض الطرف عنه أنصاف المثقفين خدمة لجهات لا تخفى .
لم يكتفِ الغرب الامبريالي بترويج المصطلحات السياسية والاقتصادية بل تعداها إلى تفكيك البنية الاخلاقية والاجتماعية للمجتمعات العربية ، رُوّج لمصطلحات مثل (( المثلية الجنسية )) تحت شعار (( الحرية الشخصية )) دون مراعاة لخصوصية ثقافية أو دينية ، وسوقت الطائفية والمناطقية لتفتيت الوحدة الوطنية .
اصبح من يدافع عن بلده أرهابياً ، ومن يطالب باستقلال القرار الوطني رجعياً ، وتحول الإسلام إلى مرادف للعنف في الخطاب الغربي ، انها فعلاً حرب مفاهيمية ناعمة ، هدفها تفكيك الهوية وتفريغ الشعوب من روحها النضالية .
ليست المصطلحات مجرد كلمات بل هي حاملات لبرامج ومشاريع وتوجهات فكرية سياسية واقتصادية واجتماعية ، من يتبناها دون تمحيص يصبح اداة في مشروع لا يفهمه
علينا ان نمتلك شجاعة النقد وجرأة التساؤل
ووضوح الموقف ، وان نعيد بناء وعينا على اسس معرفية وطنية ، تستلهم التاريخ وتفهم الواقع ، لا ان تتبع الغرب انبهاراً أو انهزاماً .
إن اخطر ما نواجهه اليوم ليس فقط الاحتلال أو الفقر والبطالة ، بل الغزو الفكري الذي تمارسه المصطلحات الوافدة عبر بوابة أنصاف المثقفين الذين لا يميزون بين التنوير والتسطيح بين الحداثة والتبعية بين النقد والانبهار أن المصطلحات التي تصدر الينا من الغرب الامريالي ، ليست بريئة كما تبدو ، بل هي ادوات ناعمة للهيمنة والسيطرة وتفكيك المجتمعات ، علينا ان نتعامل معها بوعي ونقد ، لا بانبهار واستسلام وان نعيد انتاج فكرنا ومفاهيمنا من واقعنا وتجربتنا وتاريخنا ، لا من قوالب مفروضة تخدم الاخر وتدمر الذات .
عمان
26/4/2025