أ. د. محمد طاقة
لطالما اعتبر الشرق الأوسط مركزاً للصراعات الجيوسياسية ، بسبب موقعه الاستراتيجي وثرواته الهائلة ، خاصة في مجال الطاقة ، الهيمنة على المنطقة تمنح أي قوة عالمية نفوذاً هائلاً في تحديد اسعار النفط والغاز مما ينعكس على الاقتصاد العالمي بأسره .
امريكا ادركت منذ عقود أن السيطرة على الشرق الأوسط تعني ضمان تفوقها الاقتصادي والعسكري ، ليس فقط عبر تأمين إمدادات الطاقة ، ولكن ايضاً عبر منع منافسيها ، خاصة الصين ، من الوصول الحر إلى هذه الموارد .
في ظل الصراع المتنامي بين الصين وأمريكا ، هل ستنجح الصين في ايجاد موطن قدم لها في المنطقة ، ام أنّ امريكا ستظل اللاعب المهيمن ؟
في اعتقادنا ان أمريكا وحلفائها التقليديين في المنطقة سيساعدون امريكا على تحقيق اهدافها ، لقد لعبت أمريكا دوراً محورياً في اسقاط المشروع القومي العربي ، (( الذي كان العراق يحمل رايته )) من خلال دعمها للمشروعين الصهيوني والفارسي لضمان عدم نهوض أي قوة عربية مستقلة قادرة على مواجهة الهيمنة الغربية .
تسليم العراق إلى ايران كان احد اكبر التحولات في المنطقة ، حيث استخدمت الطائفية كأداة لتمزيق النسيج العربي واضعاف أي إمكانية لقيام مشروع قومي جديد .
ومع توسع النفوذ الإيراني عبر أدواته في اليمن ولبنان وسوريا ، بدا وكأنه شريك غير مباشر للمشروع الأمريكي ، سواءً بوعي منه أو دون وعي ، لانه ساهم في اضعاف الدول العربية بدلاً من توحيدها .
اليوم الصراع بين ايران وإسرائيل لم يعد مجرد حرب بالوكالة ، بل اصبح مواجهة مباشرة ، خاصة بعد الضربات المتتالية لأذرع ايران في المنطقة .
واذا تم تحجيم الحوثيين في اليمن بشكل كامل ، فإن المرحلة القادمة ستشهد تصعيداً ضد ايران داخل أراضيها ، سواءً عبر العقوبات او العمليات السرية او حتى ضربات عسكرية محدودة .
إسرائيل تسعى لان تكون القوة الوحيدة المتحكمة فى المنطقة ، وأمريكا تدعم هذا التوجه ، لانها ترى ان إسرائيل هي الحليف الأكثر ولاءً واستقراراً ، على عكس ايران التي قد تتغير سياساتها مع اي تغيير داخلي .
منع ايران من امتلاك قنبلة نووية سيكون اولوية قصوى لاسرائيل وامريكا ، لان امتلاك ايران السلاح النووي سيغير معادلة الردع في المنطقة .
اما العرب فهم للأسف الحلقة الأضعف ، لانهم فقدوا مشروعهم القومي بسبب غزو واحتلال العراق ، ولم يعودوا قادرين على فرض أي رؤية موحدة ، الدول العربية اليوم منقسمة بين دول خاضعة للهيمنة الأمريكية ، وأخرى تحاول المناورة دون استراتيجية واضحة .
وأحزاب الامة العربية هي الأخرى منقسمة ، في ظل هذا الوضع يظل العرب مجرد بيادق في لعبة القوى الكبرى بدلاً من ان يكونوا لاعبين أساسيين .
ومع ذلك ان إمكانية عودة النهضة العربية قائمة طالما كان هناك ايمان مشترك وقدرة على تجاوز الانقسامات والتضامن في مواجهة التحديات الخارجية والداخلية .
التاريخ يشهد على قدرة الشعوب على النهوض في احلك الظروف عندما يتوفر الاتحاد والوعي .
الامة العربية تمتلك إمكانيات هائلة من موارد بشرية ومادية ، بالإضافة إلى ارث حضاري وروحي غني يُستمد من قيم الإسلام ومبادئه السمحة ، ما يمنحها الاساس للقيام بمشروع قومي حقيقي يهدف إلى التوحد والتطور .
في ظل الضغوط التي تمارسها القوى الخارجية ، يبدو ان التحدي الأكبر يكمن في بناء رؤية مشتركة تعبر عن مصالح الامة باكملها ، بعيداً عن الانقسامات الطائفية والعشائرية .
ومع تغيير الظروف العالمية وتبدل المصالح ، قد تأتي فرصة حقيقية لإحياء المشروع القومي العربي ، إذا ما استطعنا تحويل هذه الإمكانيات إلى استراتيجيات عمل واقعية ومستدامة بالتالي ، فإن الارتقاء بالمشهد العربي يتطلب تخلي القيادة والمجتمع عن التصرفات الفردية ، واعتماد منهجية جماعية تقوم على التشارك في الاهداف والرؤية ، بالإضافة إلى استثمار القوة الفكرية والثقافية لاعادة بناء الثقة والهوية الوطنية المشتركة .
التاريخ ليس ثابتاً ، ومستقبل الامة العربية يعتمد على الإرادة الجماعية في تجاوز العقبات والضغط الخارجي لصالح مصالحها الوطنية .
يمكن النظر إلى سياسات ترامب التي تستهدف الحد من النفوذ الإيراني وتدمير الأذرع الإيرانية في العراق وغيرها من دول المنطقة ، على انها قد تخلق ظروف قد تفضي إلى تغيير في موازين القوى ، ففي حال نجاح هذه السياسات في تغيير الانظمة الفاسدة وتخفيف النفوذ الإيراني ، قد يفتح المجال امام قوى عربية اكثر تماسكاً لتأمين مصالحها وتحقيق نوع من التوازن في المنطقة .
لكن من ناحية اخرى ، فإن النجاح الحقيقي للمشروع القومي العربي ، يعتمد ليس فقط على العوامل الخارجية او السياسات الأمريكية ، بل على قدرة القادة والمجتمعات العربية على استثمار الفرص وتوحيد جهودهم للتغلب على الانقسامات الداخلية وتطوير استراتيجيات واضحة للنهوض بالدول العربية .
بمعنى آخر ، قد توفر هذه السياسات نوعاً من الزخم لتغيير النظام في العراق او ايران ، إلا ان النتيجة النهائية مرتبطة بمدى جاهزية الامة العربية لاستغلال تلك التحولات في صالحها .
باختصار ، يمكن القول ان مانشير اليه من إمكانية استفادة المشروع القومي العربي من هذه السياسات قائم على افتراض حدوث تحول جيوسياسي يفضي إلى تقليل النفوذ الإيراني ، وهو ما قد يساهم في احداث تغيير إيجابي ، بشرط ان تتضافر الجهود العربية في ظل رؤية واستراتيجية مشتركة .
واخيراً نحن مؤمنون بمستقبل الامة العربية وبمشروعها القومي العربي ، رغم التحديات الهائلة ، نعم اعداء الامة يدركون ان اي نهوض عربي حقيقي سيهدد مشاريعهم ، ولهذا يعملون على إبقاء الامة في حالة ضعف وانقسام ، سواءً من خلال اثارة الفتن والطائفية أو دعم الأنظمة الفاسدة ، أو فرض الهيمنة الاقتصادية والسياسية ، ولكن لا يوجد شيء مستحيل ، والشعوب عندما تعي واقعها وتدرك قوتها تستطيع قلب المعادلات .
التغيرات العالمية قد تفتح أبواباً جديدة للنهوض العربي ، لكن المفتاح الأساسي يبقى في الإرادة الجماعية والوعي بأهمية الوحدة والعمل المشترك ..
عمان
في 5/4/20025