معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1853

الفساد المالي والإداري عدو التنمية

حجم الخط

أ. د. محمد طاقة

إن اصل مفهوم الفساد ((corruption )) هو من الكلمة اللاتينية (( corrupt us )) ومعناه باللغة العربية ((برطل – يبرطل )) أو (( رشا – يرشو )) ، وهنا تعني الرشوة باشكالها كافة .

ان هذه الظاهرة قديمة وموجودة في جميع المجتمعات، ولكن بنسب متفاوتة وحسب طبيعة الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية وحسب درجة تطور وتقدم كل بلد ، ففي البلدان المتقدمة تكون نسبة الفساد قليلة ومسيطر عليها ، عكس البلدان المتخلفة التي يكثر فيها الفساد . كما اجتهد الكثير من الباحثين في ايجاد تعريف للفساد المالي والإداري . الفساد المالي والإداري يعرف بانه إساءة استخدام السلطة العامة لتحقيق مكاسب شخصية سواء من قبل مسؤولين حكوميين او موظفين في القطاع الخاص ، يشمل ذلك ممارسات مثل الرشوة والاختلاس

والمحسوبية واستغلال النفوذ والتلاعب بالمال العام ، هذه الممارسات تؤدي الى انحراف عن القوانين والتشريعات لتحقيق مصالح شخصية على حساب المصلحة العامة . ويمكننا ان نعرف الفساد (( بانه عمل منحرف يقوم به الفرد أو الجماعة مستغلين نفوذهم في السلطة من اجل تحقيق كسب خاص على حساب المنفعة الاجتماعية والاقتصادية للبلد )) ان الفساد إذا ساد في اي مجتمع سوف يؤدي بالضرورة إلى تفكيك وتدمير المنظومة القيمية للمجتمع، فالفساد ينتشر عند غياب القوانين واللوائح والتعليمات والقيم الاخلاقية وضعف السلطة بشكل عام او غيابها تماماً على ضبط المجتمع

وهذا يحدث عندما يحدث تحول في السلطة بحيث يؤدي إلى ترك فراغ إداري وقانوني ودستوري ويستغل ذلك من ضعاف النفوس واللذين يستغلون نفوذهم من اجل تحقيق اعلى المكاسب على حساب المال العام .

وهذا ما ينطبق تماماً على وضع العراق الحالي من ممارسة الفساد المالي والإداري بحيث يعتبر العراق اسوأ بلد في العالم من حيث ممارسة الفساد وبكل اشكاله ، وبالذات بعد الاحتلال عام ((2003)) وقيام المحتلين بتفكيك الدولة العراقية وحل الجيش العراقي وبقية الأجهزة الامنية واشاعة الفوضى في البلد وتفكيك النسيج القيمي والاجتماعي للبلد واشاعة الطائفية والاثنية وتدمير البنى التحتية الاجتماعية والتقنية وغياب الرقابة بشكل كامل ، كل ذلك حصل في العراق مما جعل البلد في حالة فوضى لا نظير لها ، لا في التاريخ القديم ولا في التاريخ الحديث ، هذه الفوضى سهلت على المنتفعين والسراق والخونة وتجار الحروب والذين هم في السلطة من استغلال هذا الوضع واستغلال نفوذهم من اجل سرقة العراق كله ، اي سرقة كل ما موجود فوق الارض وباطنه. بحيث تدهورت الأوضاع الاقتصادية في البلد وبسبب الفساد لم تولي حكومات الاحتلال المتعاقبة

أي اهتمام بتنشيط الاقتصاد العراقي واهملت قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات ، فلا يوجد بتفكيرهم مسألة التنمية كونهم مهتمين بسرقة اموال العراق وتحويل العملات الصعبة إلى ايران التي تحتل العراق وحتى يومنا هذا .لذا يعتبر الفساد المالي والإداري عدواً للتنمية لانه يؤدي إلى اهدار الموارد ويتم تحويل الاموال المخصصة للمشاريع التنموية إلى جيوب الفاسدين والى ايران ، مما يؤدي إلى نقص في التمويل اللازم

لتنفيذ هذه المشاريع ، فالفساد المالي يؤدي إلى عزوف المستثمرين عن البيئات التي ينتشر فيها الفساد نظراً لعدم وجود ضمانات قانونية تحمي استثماراتهم .فضلاً عن ان الفساد يؤدي إلى تقديم خدمات عامة ذات جودة منخفضة ، نتيجة لتعيين غير مؤهلين في المناصب الحساسة واستغلال الموارد بطرق غير سليمة .كما يؤثر الفساد سلباً على توزيع الثروة والفرص ، مما يؤدي إلى تفاقم مشكلات الفقر والبطالة في المجتمع ، مع ذلك يلاحظ ان الفساد المالي والإداري في العراق بعد عام (2003) ادى إلى تحويل جزء كبير من هذه الإيرادات إلى جهات غير شرعية ، مما اثر سلباً على الاقتصاد العراقي والتنمية المستدامة للبلاد ، ففي عام (2003)

جلبت صادرات النفط حوالي (115) مليار دولار وفي عام (2024) زادت هذه الايرادات، مع ذلك الحكومة تعلن عجزها عن دفع الرواتب ، والعراق يملك (32)ترليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي ويحرق اكثر من 50‎%‎ منه في الجو بينما العراق يستورد الغاز من ايران ويدفع مليارات الدولارات لها . فهذا التصرف يدل على سوء الادارة المالية وعدم التصرف العقلاني للموارد المالية للبلد .

اما الزراعة في العراق بلد النهرين يمتلك (174)مليون دونم من الأراضي الزراعية الشاسعة منها (48) مليون دونم صالحة للزراعة الفورية ومع ذلك العراق يستورد احتياجاته الزراعية وسلة غذائه من ايران .

بالإضافة إلى ايرادات العراق من النفط والذي يعتمد عليها العراق بنسبة (90‎%‎) من الموازنة العامة للدولة , وهنالك ايرادات عديدة ومتنوعة منها ايرادات الهيئة العامة للضرائب وإيرادات جميع الوزارات ومنها وزارة الاتصالات وشبكات الهواتف النقالة ، وهيئة الاتصالات وشبكات الإنترنت والمطارات وامانة بغداد ودوائر تسجيل العقارات ودوائر

المرور وإيجارات عقارات الدولة والمنافذ الحدودية ودائرة المكارك والوقف الشيعي والسني حيث تقدر جميع هذه الإيرادات حوالي (30) مليار دولار سنوياً ، ولا احد يعلم اين تذهب هذه المبالغ ؟ كل هذه الامكانيات الهائلة، مدفونة تحت ركام الفساد وسوء التخطيط ، فالعراق بلد غني جداً بموارده المالية والبشرية ، فهو لايحتاج إلى موارد اضافية بل هو امس الحاجة إلى حكومة وطنية صافية نقية تحب العراق وتعمل من اجله وتطويره وتنميته والعراق يحتاج الى ادارة نظيفة كفوءة ، فالمشكلة ليس بالموارد بل في من يدير هذه الموارد . كما تعد قضية تهريب الدولار من العراق إلى ايران من ابرز التحديات الاقتصادية التي تواجه البلد وهي من الجرائم الاقتصادية الخطيرة والتي أدت الى نفوذ العملات الصعبة التي يمتلكها العراق ويتم ذلك عبر شبكات معقدة وطرق متعددة .

وفقاً لتقرير أمريكي ، بلغت مبيعات البنك المركزي العراقي من العملة الصعبة اكثر من (81) مليار دولار خلال عام (2024) مقارنة بحوالي (41) مليار دولار في العام (2023)، مما أثار شكوكاً حول احتمالية تهريب هذه المبالغ إلى إيران ، بل هي حتماً حولت جميعها إلى إيران وذلك عبر انشاء شركات وهمية وتقديم فواتير استيراد مزيفة للحصول على الدولار من مزادات البنك المركزي ، ثم تحويل هذه الأموال الى ايران ، بالاضافة إلى ذلك استخدام مكاتب صيرفة وشبكات التحويلات غير الرسمية لنقل الاموال نقداً عبر الحدود إلى ايران ، مما يصعب تتبع هذه العمليات ، كما تشير التقارير إلى وجود شبكات تهريب لوقود النفط من العراق ، حيث يتم بيع المنتجات النفطية بأسعار مدعومة داخل العراق ثم تهريبها وبيعها في الأسواق العالمية ، مما يوفر عائدات مالية تحول إلى إيران . قدرت لجنة النزاهة في البرلمان العراقي حجم الاموال المهربة إلى الخارج منذ عام (2003)بحوالي (350) مليار دولار اي ما يعادل (32‎%‎) من ايرادات العراق خلال تلك الفترة . كل ذلك وكل هذه التقديرات تشير الى حجم الفساد والتلاعب بالموارد المالية للبلاد

ومن الواضح جداً ان ايران استفادت من العلاقات السياسية والاقتصادية مع الجهات العراقية لتعزيز نفوذها داخل الاقتصاد العراقي إلى درجة ان ايران اصبحت تتحكم بالعراق كله . وذلك من خلال دعم مجموعات مسلحة وشخصيات سياسية ، بالإضافة إلى انشاء شبكات اقتصادية تعمل على تحويل الاموال والموارد من العراق إلى ايران . تظهر هذه الممارسات التحديات الكبيرة التي يواجهها العراق في مكافحة الفساد والحفاظ على موارده المالية ، مما يتطلب جهوداً مكثفة لتعزيز الشفافية ومحاسبة الفاسدين والمتورطين في هذه الأنشطة غير القانونية . ان العراق اليوم يعاني من غياب شبه كامل لاي نموذج اقتصادي مستدام بسبب تفشي الفساد على جميع المستويات ، التنمية بحاجة الى بيئة اقتصادية مستقرة واستثمار حقيقي في القطاعات الانتاجية وهذا غير موجود في العراق بسبب سيطرة الفساد والنهب الممنهج للموارد . في اي اقتصاد متوازن هنالك ثلاث قطاعات رئيسية تدعم التنمية أولها القطاع الصناعي وهذا غير موجود كون العراق يعتمد بشكل شبه كامل على الاستيرادات حتى السلع الأساسية ، وهذا يستنزف العملة الصعبة ويعطل الانتاج المحلي . والقطاع الثاني هو القطاع الزراعي وبسبب غياب الدعم الحكومي وتحكم المليشيات بموارد المياه أدت إلى انهيار هذا القطاع ، والفساد جعل قطاع الخدمات في حالة مزرية سواء في التعليم والصحة والمواصلات ، كل هذه القطاعات تعاني من سوء الإدارة ونهب الموارد .

لذلك ان الفساد المالي والاداري ليس مجرد عدو التنمية ، بل هو السبب الرئيسي في عدم وجود اقتصاد حقيقي في العراق ، حيث اصبح البلد مجرد سوق مفتوح للبضائع المستوردة في حين يتم تهريب موارده للخارج .

 

 

 

 

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *