معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1853

لماذا غزة ؟

حجم الخط

أ. د. محمد طاقة

أي متتبع لخطابات رئيس أمريكا السيد ترامب خلال حملته الانتخابية ، كرر في جميع خطبه شعاره المشهور (( سأجعل أمريكا عظيمة مرة اخرى )) ، مما انعكس ذلك في سياسته اللاحقة ، حيث سعى إلى اعادة التفاوض على الاتفاقيات التجارية وفرض الضرائب ورسوم جمركية على الواردات من اجل حماية الصناعات المحلية وتحقيق توازن اكبر في الميزان التجاري ، هذا النهج يُظهر وعيه بالمشكلات الاقتصادية الداخلية الكبيرة وادراكه التام بهذه المشكلات ، مثل ارتفاع الدين القومي والاختلال في العلاقات التجارية مع شركائه الرئيسيين مثل الصين والاتحاد الأوروبي. ففي السنوات الخمس الاخيرة، شهدت أمريكا زيادة ملحوظة في حجم ديونها الوطنية ، إلى جانب تقلبات في الميزان التجاري مع كل من الصين والاتحاد الأوروبي. تشير الإحصاءات إلى ان الدين القومي لأمريكا نما بشكل ملحوظ خلال الفترة من (2918 -2022) وكما يأتي:

ألدين القومي

ألسنة

حوالي 21,5 ترليون دولار

2018

حوالي 22.7 ترليون دولار

2019

حوالي 26.9 ترليون دولار

2020

حوالي 28.5 ترليون دولار

2021

تجاوز ال 31 ترليون دولار

2022

 

يعكس هذا النمو السنوي الذي يتراوح بين ( 8-10%) تأثير السياسات المالية والانفاق الحكومي الكبير ، خاصة في ظل تبعات جائحة كورونا والإجراءات التحفيزية التي اتّبعتها الحكومة الامريكية.

اما بالنسبة للميزان التجاري الأمريكي مع الشركاء الرئيسيين فان امريكا تستمر في تسجيل عجز تجاري كبير مع الصين إذ تتراوح الفجوة التجارية بينهما في السنوات الأخيرة بين (300-400)مليار دولار سنوياً ، ويعود ذلك إلى الفارق الكبير بين الواردات الأمريكية من الصين والصادرات الموجه اليها . مما جعل العلاقة التجارية بين البلدين لصالح الصين ، ويعتبر ذلك من ابرز نقاط الخلاف في السياسات التجارية الأمريكية . اما بالنسبة للعجز التجاري مع السوق الاوربية المشتركة ، كون الاتحاد الاوربي يمثل شريكاً تجارياً رئيسياً لأمريكا حيث يسجل الميزان التجاري بينهما عجزاً سنوياً يقدر بين (100-150) مليار دولار يعزى هذا العجز إلى فروقات في حجم وتخصصات التبادل التجاري ، خاصة في قطاعات مثل السيارات والآلات والمنتجات الكيميائية.

مما تقدم تعكس البيانات ان امريكا تواجه تحديات كبيرة من ناحية ارتفاع الدين القومي ، حيث تجاوزت قيمة الديون (31) ترليون دولار في عام (2022)وهو في زيادة ، فيما يشكل العجز التجاري مع كل من الصين والاتحاد الأوربي مبالغ كبيرة جداً ، تظهر هذه المؤشرات الحاجة إلى مراجعة السياسات المالية والتجارية لتحقيق توازن اكبر وتعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد الأمريكي في ظل بيئة اقتصادية عالمية متقلبة وحتى يتمكن السيد ترامب من جعل أمريكا عظيمة مرة اخرى ، لابد من معالجة المشاكل الاقتصادية الضخمة التي تعاني منها الولايات المتحدة الأمريكية وبشكل خاص مشكلة الديون والاختلالات الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد الا مريكي ، وسيعمل وفق مبدأ أن لكل نفقة مردود اقتصادي واجتماعي وسياسي وسيحاول وبك الوسائل المتاحة للحصول على مايمكن الحصول عليه من اموال ، وعلى هذا الاساس ستكون مصلحة امريكا اولاً . لذلك اتخذ ترامب إجراءات عدة تهدف إلى جذب رؤوس الاموال من الخارج ، فقد عمل على اعادة صياغة العلاقات التجارية بما يتماشى مع مصلحة امريكا ، الامر الذي شمل اعادة النظر في بنود الاتفاقيات الدولية وتطبيق رسوم جمركية جديدة . وفيما يتعلق بتوجّهه نحو مشاريع استراتيجية كقناة بنما (( التي تدر سنوياً خمسة مليار دولار )) او المشاريع المماثلة التي تستهدف تحسين الممرات المائية وتخفيف الاعتماد على القنوات التقليدية مثل قناة السويس ، وتركيزه على مناطق استراتيجية مثل (غزة).

تعتبر هذه التحركات جزءً من سياسة اوسع لتأمين مصادر الدخل وتعزيز النفوذ الأمريكي بينما يمكن النظر إلى هذه السياسات على انها خطوات لحماية مصالح أمريكا ، ونحن نقول ان مثل هذه الإجراءات سواءً كانت في شكل ضرائب جمركية او اعادة تشكيل الاتفاقيات التجارية ، قد تحدث تاثيرات سلبية على اقتصاديات الدول الاخرى وتؤدي إلى توترات سياسية واختلالات في التجارة العالمية . من حق الرئيس الاميركي ان يعمل من اجل بلده ولكن يجب ان لا يكون على حساب شعوب وحكومات العالم . ومن هذا المنطق نحن نرى ان التركيز على إنقاذ الاقتصاد الأمريكي سيكون على حساب الشعوب والدول الأخرى, التي قد تتحمل تبعات هذه السياسات من حيث ارتفاع الاسعار او تقلبات الأسواق.

في المجمل ، يمكننا القول ان سياسات ترامب كانت موجهة نحو اعادة هيكل الاقتصاد الامريكي وتامين مصالحه ، وهو يتفق مع المبدأ الوطني الذي ينادي به ، وسيكون لهذه السياسات تبعات عالمية وستؤثر على العلاقات التجارية الدولية وعلى الاقتصاد العالمي . ويمكننا القول بأن السيد ترامب يعمل من اجل إنقاذ اقتصاد بلده على حساب شعوب ودول العالم ، وهذه هي طبيعة المنظومة الرأسمالية .

ان زيادة اهتمام الرؤساء الأمريكان (( وكما عبر عنها أيضاً السيد ترامب )) بقطاع غزة يأتي من ادراك عميق لابعاد هذا القطاع الاستراتيجية والاقتصادية، إذ يُمكن لسيطرة القوى الكبرى على مثل هذه المحاور ان تعيد ترتيب ميزان القوى في الشرق الأوسط وتحقيق مكاسب اقتصادية ضخمة ، غزة برغم تحدياتها وتعرضها المستمر للصراعات ، تظل في قلب المعادلة الاستراتيجية في المنطقة ولها مستقبل يحمل آفاقاً اقتصادية وأمنية واقليمية لا يمكن تجاهلها . وعلى هذا الاساس باتت مدينة غزة تحتل مكانة استراتيجية متزايدة على المستوى الجغرافي والاقتصادي والامني، مما جعلها محور اهتمام ليس فقط للسياسات الإقليمية بل للمشاريع الضخمة التي تعيد رسم خريطة التجارة والطاقة في المنطقة .

وفي هذا السياق ، سنتناول اهمية غزة الجغرافية والاقتصادية والأمنية في ضوء إمكانية مشروع قناة ( بن غوريون ) المنافسة لقناة السويس واهمية مواردها الطبيعية من الغاز ودورها المحتمل كمحور في مشروع طريق الهند الذي يسعى إلى ربط آسيا وأروبا منافساً بذلك طريق الحرير الصيني .

تقع غزة في موقع جغرافي حيوي على الساحل الشرقي للبحر الابيض المتوسط وهي نقطة التقاء للقارات ومحور أساسي في طرق الملاحة الدولية ، وقد اثيرت فكرة مشروع ( قناة بن غوريون ) منذ فترة ليس ببعيدة كبديل لقناة السويس ، اذ يقترح ان تمتد هذه القناة من إيلات على البحر الأحمر الى البحر الابيض المتوسط عبر منطقة قريبة من غزة ، وتتيح هذه الفكرة تقليل المسافات وتحقيق وفرات لوجستية كبيرة . إذ من المتوقع ان تكون القناة بعمق (50)متراً وعرض لا يقل عن (200) متراً ما يسمح لعبور سفن بحجم اكبر مقارنة بقناة السويس ذات العمق (40) متراً والطول المحدود ، وقد ذكرت تقارير ان القناة قد تدر عوائد تصل الى (6)مليار دولار سنوياً., مما يجعلها عنصراً اقتصادياً واستراتيجياً حيوياً ومن الناحية الامنية يمكن استخدام هذا المشروع كخط دفاعي يضمن السيطرة على طرق الشحن الدولية .

اما بالنسبة للغاز ، تعتبر احتياطيات الغاز الطبيعي في البحر قبالة ساحل غزة من اهم المكتسبات الاقتصادية للقطاع . فقد اكتشفت في حقل ( غزة مارين ) في اواخر عام (1999) ويُعَد احتياطيه بحوالي (33)مليار متر مكعب اي (1،1)ترليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي وحتى الان لم يبدأ انتاج الغاز من هذا الحقل بسبب مجموعة من التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية. ويدر هذا الحقل في حالة استخدامه أرباح سنوية تقدر بحوالي (150) مليون دولار .

اما طريق الهند والذي بمثابة جسر تجاري مستقبلي عبر غزة يتطلع مشروع طريق الهند إلى إنشاء ممر بري يربط بين الهند وواربا مروراً بمنطقة الشرق الأوسط ، ويعد هذا المشروع منافساً واضحاً لطريق الحرير الصيني الذي يشهد توسعاً مستمراً . ومن المتوقع ان يمر الممر عبر غزة التي بفضل موقعها الاستراتيجي على الساحل الشرقي للبحر الابيض المتوسط ، ويمكن ان تتحول إلى عقدة رئيسية في شبكة النقل والتجارة الاقليمية . ولهذه الاسباب اصبحت غزة ليست مجرد مدينة ساحلية . بل هي محور جغرافي واستراتيجي يمتد تأثيره إلى مستويات عدة ، فهو المكان الذي يمكن ان يعيد رسم معالم التجارة الدولية ومصير الطاقة في المنطقة . سواءً من خلال مشروع قناة ( بن غوريون) الذي يحدث ثورة في حركة الشحن الدولية ، او من خلال استغلال احتياطيات الغاز التي تعد بمثابة محرك اقتصادي رئيسي ، او عبر الاندماج في مشروع طريق الهند الذي ينافس شبكات النقل العالمية.

من اجل كل ذلك ان الرئيس الاميركي دونالد ترامب يسعى للسيطرة على هذه المدينة الاستراتيجية والتي تخدم طموحات السيد ترامب للاستحواذ على مواردها وموقعها الجغرافي .

 

06.02.2025

عمان

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *