أ. د. محمد طاقة
تُعد الاختلافات في الاراء بين الأفراد والشعوب والأحزاب ، ظاهرة طبيعية بل ضرورية جداً ، حيث يمثل هذا التضارب والاختلاف الاساس
لعملية التطور الاجتماعي والسياسي والفكري بشكل عام .
فبدون اختلاف الآرآء وتنوعها ، تبقى المجتمعات جامدة ، غير قادرة على التقدم والتطور .
ان عملية الحوار بين الأفكار المتباينة تساعد على تحسين الفهم المتبادل ، وتوليد افكار جديدة ، وتوسيع المدارك .
لكن المشكلة الحقيقية لا تكمن في وجود الاختلاف بحد ذاته ، بل في عدم تقبل هذا الاختلاف ، الأمر الذي يؤدي إلى توتر العلاقات ، والذي قد يتطور إلى القطيعة وتعميق الكراهية والحقد ، وفي بعض الحالات قد يصل الأمر إلى الاقتتال ، وهو ما نشهده في كثير من المجتمعات التي تفتقر إلى ثقافة الحوار .
ان درجة تقبل الآخرين لرأي مغاير تعتمد بشكل كبير على التنشئة الاجتماعية والبيئية التي نشأ فيها الأفراد ، فضلاً عن مستوى تعليمهم وثقافتهم وإدراكهم لاهمية الحوار الجاد والبناء .
الشخص الذي لا يتقبل آراء الآخرين ويعتبر من يخالفه الرأي عدواً له ، ويعمل على مقاطعته والتطاول عليه ، هو انسان جاهل متعصب ومتخلف ، يفتقر إلى المرونة الفكرية والقدرة على قبول النقد ، هذا الشخص الذي يرى ان رأيه هو الرأي الصائب الوحيد ، ويعتبر أي محاولة للنقاش أو الاختلاف بمثابة تهديد لذاته ، وهنا يكمن الخطر ، إن هذا السلوك يعكس نقصاً كبيراً في الوعي والثقافة ويشير إلى انغلاق فكري يعوق التقدم والتطور الشخصي والاجتماعي .
ثقافة الرأي والرأي الاخر تعني احترام أي رأي مخالف والاستماع اليه ومناقشته بحيادية وموضوعية ، دون التمسك بالرأي الشخصي بشكل اعمى .
يجب ان يتم النقاش بأسلوب هاديء ومحترم ، يتيح تبادل الأفكار بشكل بناء .
ان هذا النوع من الحوار هو ما يساعد المجتمعات على تجاوز الأزمات والتحديات ، ويساهم في بناء مجتمع ديمقراطي يعترف بحقوق الإنسان في التعبير عن آرائه وأفكاره بحرية ودون خوف .
تعد حرية الرأي من اهم اسس حقوق الانسان ، إذ تتيح للافراد إمكانية التعبير عن افكارهم المختلفة دون قيود أو رقابة ، بشرط أن لا تتعارض هذه الافكار مع القوانين والأعراف الاجتماعية .
ومن هنا تأتي أهمية التوفيق بين حرية التعبير واحترام القيم والتقاليد الاجتماعية والظروف المعيشية ومستوى التعليم والثقافة .
فلا يمكن للفرد ان يمارس حريته بشكل مطلق دون ان يراعي السياق الاجتماعي الذي يعيش فيه .
أن اختلاف الاراء كما ذكرنا ضروري في عملية التطور ورفع المدارك والتغيير والتأثير .
ولهذا يجب علينا ان نحترم الرأي الاخر ونقبله ، فهو يعكس تنوع المجتمع وغناه .
إلا ان المشكلة الكبرى في مجتمعاتنا الشرقية والعربية هي التمسك بالرأي بشكل لا نجده في المجتمعات المتقدمة ، هذا التمسك الاعمى بالأفكار والعادات والتقاليد يعكس تخلفاً فكرياً يعيق التقدم .
وفي كثير من الاحيان ، نجد ان الاحزاب السياسية والثورية نفسها ، التي من المفترض ان تكون منبعاً للأفكار التقدمية ، ترفض النقاش وتغلق أبواب الحوار ، مما يؤدي إلى انشقاقات وصراعات داخلية .
حتى داخل الحزب الواحد ، إذا ما اختلفت على مسألة غير جوهرية نجد ان جميع الأطراف تتمسك برأيها كونها لا تمتلك وعياً كافياً لتقبل الاراء المخالفة لها .
واذا ما اختلف أحد الاعضاء مع قيادته على مسألة ثانوية ، فان مصيره يكون الخروج من التنظيم واتهامه بالخيانة والعمالة ، في حين ان الحوار والنقاش الموضوعي هما السبيل الوحيد لحل الخلافات والتوصل إلى حلول تخدم المجتمع والتنظيم ، وهذا يعكس غياب ثقافة الرأي والرأي الآخر ، وافتقار الأحزاب إلى الوعي الكافي لتقبل الأفكار المختلفة .
ان عدم احترام الرأي الاخر يتسبب في الكثير من المشاكل ، كالتعصب والاستهزاء والسخرية من الآخرين ، مما يؤدي بدوره إلى مشاكل نفسية وتفكك اجتماعي .
من هنا لا بد لنا من تربية أطفالنا منذ الصغر على تقبل اختلاف الاراء واحترام الآخرين ، فهذه هي اللبنة الاولى لبناء مجتمع صحي متماسك ، علينا ان نزرع في نفوس أبنائنا قيمة الحوار واهمية النقاش مع التنوع الفكري ، لكي نتمكن من بناء جيل قادر على التفكير النقدي والإبداعي ، وقادر على قيادة مجتمعاتنا نحو مستقبل افضل .
كما ان الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة او الرأي الصائب الوحيد ، هو بالفعل اساس التخلف الفكري . فالمعرفة بطبيعتها نسبية ومحددة ، لا يمكن لاي فرد او مدرسة فكرية ، سواءً كانت مثالية أو مادية ، ان تدعي الإلمام بكل جوانب الحقيقة لذلك يجب ان يكون الحوار والتفاعل مع الاراء المختلفة هو المنهج السائد ، لانه الوسيلة الأنجح للوصول إلى فهم اعمق واشمل .
الحوار يتيح الفرصة لتبادل الأفكار والنقاش البناء ، مما يساعد على تقليص الفجوات الفكرية والثقافية .
كما انه يساعد على تجنب خسارة الاشخاص الذين يشتركون معنا في المباديء العامة ، ولكن قد يختلفون معنا في التفاصيل ، فالتمسك بالرأي ورفض الحوار يؤدي إلى عزلة فكرية وانغلاق ، بينما يفتح الحوار آفاقاً جديدة للتعاون والإبداع المشترك ..
عمان في ٢٨/٩/٢٠٢٤