معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1853

هل دكتاتورية الشعوب هي البديل القادم لدكتاتورية رأس المال

حجم الخط

أ. د. محمد طاقة

عاشت البشرية على مدار العقود الأخيرة تحت وطأة نظام عالمي تُهيمن عليه أقلية مالية عالمية ، تمتلك رأس المال ، وتتحكم في الإعلام ، وتدير القوة العسكرية الدولية ، هذه المنظومة التي يُمكن وصفها بدقة ب( دكتاتورية رأس المال ) ، لم تترك مجالاً لحياة ديمقراطية حقيقية ، بل قامت بإفراغ مفاهيم الحرية والعدالة من مضامينها ، لتخدم مصالح تلك الأقلية على حساب الأغلبية الساحقة من سكان الأرض .

إنّ النظام الرأسمالي يعيش أزمة وجودية متعددة الأوجه تتجلى في أزمة البيئة والمناخ ، إنّ الرأسمالية بطبيعتها الاستهلاكية القائمة على تعظيم الأرباح أضرّت بالكوكب ، تغيير المناخ ، التلوث ، استنزاف الموارد الطبيعية ، كلّها نتائج مباشرة لمنطق السوق الحر ، كذلك أزمة الديون ، الاقتصاد العالمي غارق في ديون غير مستدامة ( ديون الدول والشركات والأفراد ) وقد تحولت أدوات الدّيْن إلى قنابل موقوتة تهدد الاستقرار المالي العالمي . إضافة إلى اللامساواة، أي الفجوة بين الأغنياء والفقراء تزداد اتساعاً بشكل غير مسبوق ، أقل من (1‎%‎) من البشر يملكون ما يعادل نصف ثروات العالم ، بينما مئات الملايين يعيشون في فقر مدقع . كما أنّ الركود والانكماش حيث اقتصادات الدول الكبرى تواجه تباطؤ طويل الأمد في النمو ، في ظل تشبع الأسواق ، وضعف الطلب وعدم قدرة السياسات النقدية على التحفيز المستدام . إضافة إلى الحروب وتصاعد الصراعات الإقليمية والعالمية ، وعودة منطق الحرب الباردة والحروب بالوكالة وأزمات الطاقة والغذاء ، كلّها تكشف هشاشة النظام العالمي القائم. كلّ هذه الأزمات تشير إلى أنّ الرأسمالية لم تعد قادرة على الاستمرار بالطريقة ذاتها وأنّ الأزمة لم تعد دورية ، بل وجودية ، وأنّ النظام الرأسمالي العالمي قد بلغ ذروته في السيطرة والاحتكار ، إذ تتحكم الأوليغارشية على أكثر من نصف ثروات العالم وأنّ المؤسسات المالية العالمية ( صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) تدار لمصلحة النخبة الرأسمالية ، وأنّ الاعلام العالمي موجه لتكريس ( الخوف ، والطاعة ، وثقافة الاستهلاك ) . والحروب تفتعل لتصريف فائض الانتاج العسكري وخلق تبعية اقتصادية جديدة .

هذه الممارسات تنتج حالة غضب جماهيري كامن في المجتمعات ، لاسيما في الجنوب العالمي ، بل حتى داخل الدول الغربية نفسها . إنّ تصاعد الاحتجاجات ضد (النيو ليبرالي ) ، كما في فرنسا ( أصحاب السترات الصفراء) وأمريكا اللاتينية وأفريقيا ومنطقة الشرق الاوسط ، تشير إلى أنّ الشعوب بدأت تفقد الثقة بالنظام العالمي القائم.

ومن وجهة نظرنا أنّ دكتاتورية الشعوب كمفهوم بديل لدكتاتورية رأس المال يعبر عن رفض للاحتكار الرأسمالي الذي يهيمن على الأسواق العالمية والسياسات والوعي ورفض للنخب السياسية والاقتصادية التي تدعي تمثيل الشعوب بينما تخدم مصالح الشركات العملاقة . هذا المفهوم يشير إلى مرحلة ثورية جديدة ، قد لا تتخذ شكل ثورة عنيفة تقليدية ، بل قد تكون ثورة وعي جماهيري ترفض الخنوع لإملاءات السوق والمال . وتسعى إلى انتقال تدريجي نحو اقتصاد بديل محلي تعاوني ، تشاركي أكثر عدالة واستدامة . وتعمل على تفكيك هيمنة الدولار والشركات العابرة للقارات عبر لا مركزية الاقتصاد . واعتماد نماذج جديدة مثل العملات المحلية ، الاقتصاد الاجتماعي ، والعملات الرقمية اللامركزية . إذا أرادت الشعوب أنْ تبني بديلاً حقيقياً عن دكتاتورية رأس المال ، فلا بد من رؤية واضحة تتضمن اقتصاد إنساني قائم على الحاجات لا على الأرباح وإعادة توزيع الثروة بشكل عادل عبر نظم ضريبية عادلة ، وإعادة تعريف الملكية وتقليص سيطرة الشركات العملاقة على الموارد العامة والعمل على تحرير المعرفة والاعلام من قبضة الاحتكار الرأسمالي ؛ لأنّ الوعي هو اساس

التغيير . والعمل على تحقيق ديمقراطية حقيقية تشاركية ، لا تلك التي تختطف من صناديق الاقتراع ثم تدار من خلف الستار .

والإشكالية الكبرى فيما إذا الشعوب جاهزة لتحقيق هذه التحولات الكبرى ، كون الشعوب تعاني من تضليل إعلامي هائل يغيب عنها طبيعة أزمتها الحقيقية ، وكذلك الخوف من التغيير بسبب عقود من القمع والفقر والاعتماد على الدولة أو السوق ، وتفكك القوى الثورية البديلة وغياب مشروع متماسك يقود الجماهير ، لكن بالرغم من ذلك فإنّ بوادر الوعي تتصاعد ، من أمريكا اللاتينية إلى الشرق الأوسط من احتجاجات الطبقات العاملة إلى حركات البيئة من رفض النيو ليبرالية إلى انتقاد العولمة المتوحشة .

نعم أنّ النظام الرأسمالي يعيش مراحله الأخيرة كما نعرفه اليوم ، والانفجار قادم لا محالة ، ولكن البديل لن يكون ثورة اشتراكية كلاسيكية ، ولا ولادة شمولية شعبوية ، بل ربما شيء جديد تماماً ، ثورة قاعدية شعبية تتجاوز النماذج القديمة وتسعى إلى خلق توازن جديد بين الإنسان والاقتصاد ، بين المجتمع والسوق ، وما نسميه ب ( دكتاتورية الشعوب ) يُمكن أنْ يكون التعبير الرمزي عن هذه المرحلة الجديدة ، إذ تستعيد الشعوب سيادتها على مصيرها وثرواتها .

عمان

في 10/9/2025

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *