أ. د. محمد طاقة
كنت دائماً انبه طلبتي ، على التأكد من كل مصطلح يأتينا من النظام الراسمالي ، لمعرفة نواياه وماذا يقصدون من ترويج هذه المصطلحات ، وما هي سلبيات وإيجابيات هذه المصطلحات على واقعنا ، وحينها ظهر مصطلح الخصخصة وبعدها ظهر مصطلح العولمة ، وكتبت الكثير حول هذين المصطلحين وبينت ما المقصود منهما وما هي اهداف المنظومة الرأسمالية وكيف تستغلها من اجل مصالحها فقط ، ووجدت ان العولمة والخصخصة ماهما إلا تكييف فكري لمزيد من الهيمنة .
واليوم نجد ان الكثير من أنصاف المثقفين يروجون من خلال الكتابات او من خلال وسائل الاعلام المختلفة حول مصطلح ((عصر الايديولوجيات انتهى)) ، دون ان يدركوا ما المقصود من ترويج هذا المصطلح الذي اصبح سائدا ًخلال هذه الفترة .
ان مصطلح ((نهاية الإيديولوجيا)) تم الترويج له بقوة منذ الخمسينات والستينات ، وكان السيد ( دانيال بيل ) من اوائل من نظر له ، وفي هذا المجال لا بد من معرفة ما المقصود بكلمة الإيديولوجيا او الإيديولوجية ، فهي مجموعة من الأفكار والمعتقدات التي تشكل رؤية متكاملة للعالم ، وتوجه السلوك السياسي والاجتماعي والاقتصادي للأفراد والجماعات ، فهي عبارة عن فلسفة شاملة او نظاماً من القيم والمباديء التي يعتمد عليها الناس في تفسير الواقع واتخاذ ما هو مناسب من المواقف .
غالباً ما ترتبط الإيديولوجيات بالأنظمة السياسية والحركات الاجتماعية مثل ( الليبرالية ، الاشتراكية ، القومية ، الماركسية ، والرأسمالية ) ، حيث تقدم كل منها تفسيراً محدداً للمجتمع والتاريخ ، وتقترح حلولاً لمشاكله في بعض الاحيان تستخدم الأيديولوجيا أيضاً كاداة للتأثير والتعبئة لتحقيق اهداف سياسية او اقتصادية واجتماعية معينة .
ان الادعاء ان (( عصر الأيدولوجيا انتهى )) هو محاولة لتطبيع الواقع المفروض وجعله يبدو وكأنه الحالة الطبيعية التي لا يمكن تغييرها .
الفكرة الأساسية وراء هذا الطرح هي إقناع الناس بان اي محاولة لتقديم رؤى جديدة أو بدائل فكرية هي امر غير مجد ، وبالتالي ، دفعهم للقبول بالأمر الواقع دون مقاومة .
ولكن هل يمكن للبشر ان يتوقفوا عن التفكير والبحث عن حلول لمشاكلهم ؟
بالطبع لا ، فالتفكير والتساؤل هما جوهر الوجود الانساني ، واذا توقف الانسان عن ذلك ، فهذا يعني استسلامه التام للظروف التي تفرض عليه دون نقد او تحليل ، فهذا يعني تجميد العقل البشري وخضوعه لواقع مفروض عليه .
الغاء الأيديولوجيا ، يعني فعلياً الغاء قدرة الانسان على الحلم والتغيير ، وهذا يخدم مصالح القوى التي تستفيد من الوضع القائم ، سواء كانت أنظمة سياسية او مؤسسات اقتصادية او نخب مسيطرة .
لذلك الترويج لمقولة (( انتهاء عصر الأيدولوجيا)) هو في حد ذاته ايديولوجيا خفية تهدف إلى تثبيت سلطة معينة وجعلها تبدو كانّها قدر لا مفر منه ، حتى لو لم يكن قائلوه يدركون ذلك .
الأيديولوجيا ليست مجرد فكرةً جامدة او قالب فكري محدد ، بل هي طريقة التي يفهم بها الناس الواقع ، ويصيغون من خلالها رؤيتهم للحياة والمجتمع ، فهل يمكن ان يتوقف البشر عن تبني افكار ونظم فكرية تفسر لهم العالم بالأكيد لا ؟
ان ما حدث في السنوات الاخيرة هو تراجع بعض الأيديولوجيات الكبرى او تحولها ، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وصعود العولمة والرأسمالية المتوحشة ، لكن هذا لا يعني اختفاء الأيديولوجيا ، بل انها تاخذ أشكالاً جديدة ، مثل النيو لبرالية التي تحكم العالم اليوم دون ان يسميها الكثيرون ايدولوجيا ، رغم انها نظام فكري واقتصادي يوجّه السياسات والمجتمعات بشكل كامل .
اذن القول بأن عصر الإيديولوجيا انتهى هو محاولة لإخفاء هيمنة ايدولوجيا معينة ( الرأسمالية مثلاً ) وجعلها تبدو كانّها الواقع الطبيعي ، الذي لا يمكن تغييره ، وهذا بحد ذاته اخطر أنواع الأيديولوجيات ، لانه يجعل الناس يعتقدون انهم احرار بينما هم واقعون تحت تاثير فكر معين دون ان يدركوا ذلك .
ان المنظومة الرأسمالية تعمل بذكاء على نشر هذا الوهم بأن ( عصر الأيدولوجيا انتهى ) لسبب بسيط هو منع ظهور بدائل فكرية تهدد هيمنتها ، فمن خلال إقناع الناس بأن الايديولوجيات انتهت ، فإنها في الواقع تحاول قتل اي تفكير نقدي يمكن ان يؤدي إلى خلق أنظمة اقتصادية واجتماعية مناهضة لها .
الرأسمالية لا تريد منافسة فكرية حقيقية ، بل تسعى إلى ترسيخ نفسها كنظام طبيعي وأبدي وتستخدم وسائل متعددة لتحقيق ذلك مثل شيطنة الأيديولوجيات المعارضة واعتبار اي حركة فكرية تنتقد الرأسمالية يتم وصفها اما انها رجعية او طوباوية او خطيرة والهدف هو ترهيب الناس من تبني افكار بديلة ، وكذلك تعمل على الترويج للواقعية بدل الإيديولوجيا ، وتسعى للهيمنة الإعلامية والثقافية واستخدام العولمة كاداة للسيطرة ، لذا فان مقولة ((نهاية الإيديولوجيا )) ليست سوى خدعة تخدم الرأسمالية ، لانها تعني عملياً الغاء اي تحدِ محتمل لها ، مما سمح لها بإدامة استغلالها للعالم دون مقاومة فكرية جادة .
واخيراً لابد ان نعلم جميعاً وبشكل خاص أنصاف المثقفين الذين يروجون هذه الأفكار ، بأن الفكر لا يموت وان التاريخ ليس مساراً حتمياً ، بل هو صراع دائم بين الأفكار والمصالح ، ولكن الوعي بهذه الحقيقة هو الخطوة الاولى لمواجهة هذا الطرح ، واعادة إحياء النقاش الفكري حول بدائل اكثر عدالة وانسانية ، ومن يمتلك القدرة على انتاج افكار جديدة يمتلك المستقبل ..
عمان
26/2/2025