معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1853

نحن نعيش وسط عالم قبيح جداً

حجم الخط

أ. د. محمد طاقة

يقول الأديب والروائي المشهور فيدور ديستويفسكي (( الصادق يخسر دائما في صراع الكلمات ، لانه مقيد بالحقيقة ، والصادق في صدقه أسير الحقيقة يحملها
كعبء مقدس . أما الكاذب فهو متحرر من كل قيد يصوغ الكلمات بألفاظ براقة ، والشخص
الكاذب يمكن ان يقول أي شيء، أنها فعلاً مواجهة عبثية بين نقاء هش وقبح مستبد ))
نعم هذا ما نعيشه اليوم ، لقد تربينا منذ صغرنا على عدم الكذب لان الكذب حرام
ويعاقبنا الله سبحانه وتعالى عليه أشد العقاب
وتربينا على قول الحقيقة ونتجنب الكراهية والحقد وان لا نسرق وان نحترم الكبير والصغير ، ونشأنا على هذه العادات والتقاليد والمثل العظيمة ، وتم بناء المجتمع وفق هذه القيم العليا التي تراكمت عبر مئات السنين ، واليوم اصبح كل شيء بالمقلوب ، بحيث اصبح الانسان الذي يحمل هذه القيم والاخلاق شاذاً في مجتمعه ، وشاذاً في هذا العالم الشاذ الذي سادت فيه كل أشكال الرذيلة ، حيث كثر فيه الكذابون والافاقون
والانتهازيون والمنافقون والدجالون والمدلسون والسراق ، وتم زرع الرذيلة في كل زاوية من زوايا الارض ، وانتشر الفساد وبكل اشكاله وبشكل خاص الفساد الاخلاقي البشع
واللاانساني ، ونحن نعيش وسط هذا العالم المليئ بالموبقات وانتهاك حقوق الانسان ، وعلى هذا الاساس اصبحنا نحن الذين تربينا على القيم العليا هامشيون لا مكان لنا في ظل هذه القيم الفاسدة والمنتشرة حول العالم .
نحن الذين وصلت أعمارنا حد النضج وزادت معرفتنا وتجربتنا وزاد وعينا لكي ندرك ما يدور من حولنا نجد انفسنا امام جيش من المتخلفين والاميين والكذابين والشواذ الذين لايدركون الحقيقة لذا اصبح صراع الكلمات والحوار معهم عقيماً ، بسبب الفرق الشاسع بدرجة الوعي والإدراك والثقافة ، فالمتخلف يتصرف بعقلية جامدة متحجرة لا مجال لاختراقها .
اما الصادق والمتنور ، يخسر دائماً امام المتخلفين والكذابين ويكون الحوار معهم شيء من العبثية . لقد تعلمنا ان الخطوط المستقيمة لا تتقاطع ابداً لكنها تتقاطع مع الخطوط المنحنية ، فالإنسان السوي يتقاطع حتماً مع الانسان الغير سوي الانسان الفاشل صاحب العقلية الجامدة المتحجرة .
فعلاً المواجهة مع هؤلاء المتخلفين مواجهة عبثية ، مواجهة بين النقاء والصفاء وبين قبح متحجر ومستبد .
فكيف لنا ان نعيش وسط هذا الكم الهائل من الفساد والقبح واللا إنسانية ، كيف لنا ان نعيش وسط نظام دولي فاسد ومجرم ومشعوذ ينتهك حقوق الانسان في عموم العالم ، كيف لنا ان نعيش وسط عالم قبيح يقتل النساء والأطفال في غزة وكل فلسطين وينتهك حقوق الإنسان في العراق وسوريا ولبنان ، كيف لنا ان نتقبل كل ذلك ونحن الذين تربينا على قيم إنسانية وقيم اجتماعية راقية ، بدأنا نشعر أن زيادة الوعي وإدراك حقيقة الأمور وزيادة ثقافة الإنسان وتعلمه ، اصبحت تشكل عبئاً ثقيلاً جداً علينا ، في مواجهة هذا العالم المجنون ، لقد انتشر الجنون والفساد في العالم . كيف لنا ان نعيش وسط هذا الظلام الدامس ؟
نحن لا نستطيع الاستمرار وتحمل كل هذه الكوارث الانسانية ، فلا سبيل امامنا سوى البحث عن كوكب آخر خالي من كل هذه الموبقات التي تسود عالمنا لنعيش فيه .
لقد سئمنا هذه المواجهات العبثية بين الوعي واللاوعي ، بين فهم ما يدور من حولنا وعدم فهم الآخرين ذلك ، بين التخلف والتطور المنشود ، بين الصدق والكذب ، بين الحرية والعبودية المعاصرة .
ان المرحلة التي نعيشها ، هي مرحلة
اللاتوازن ، التي اختلطت فيها الألوان والأشكال وتاهت في طياتها الأبعاد الملموسة وغير الملموسة ، بحيث يصعب على المرء ان يحدد مساراتها وآفاقها انها مرحلة اللامعقول واللامنطق ، بحيث اصبح فيها المنطق مرفوضاً والمعقول مستبعداً ، و اصبح المتمسك بالحقيقة والحق كافراً والمتشبث بالعادات والتقاليد القومية والدينية والتراثية والوطنية منبوذاً ، بل هو خارج حركة التاريخ ، اذاً اصبح المنطق والمعقول هو الاستثناء والعكس هو القاعدة ، اذاً هي مرحلة الجنون الإنساني . اصبحنا وهذا الحال نتمنى لو عشنا في المرحلة المشاعية هذه المرحلة الجميلة الهادئة التي تتميز بغياب الملكية حتى نتصارع عليها كما نفعل اليوم ، وفي هذه المرحلة لا وجود للفوارق الذهنية والثقافية الجميع سواسية ، بادراك ما يعيشون فيه ، فالصراع الوحيد كان بين الانسان والطبيعة فقط ، عكس الصراع في عالم اليوم المتمثل بالصراع الطبقي والصراع بين دول الشمال ودول الجنوب والصراع الثقافي والقومي وصراعات اخرى ، اخطرها هو الصراع من اجل الهيمنة على مقدرات العالم .
ان المنظومة التي تقود العالم تعمدت على تجويع شعوب العالم وعلى وجه الخصوص شعوب دول العالم الثالث من اجل الهيمنة عليهم بسهولة ، والجوع يجعل الانسان يفعل كل شيء ويتجه نحو الانحراف والرذيلة وهذا ما تبتغيه هذه المنظومة ويؤكد ذلك دوستويفسكي عندما يقول (( إذا جاع الناس فسدت اخلاقهم ، ويقول أطعم الناس أولاً ثم طالبهم بالفضيلة )) كيف نطالب الشعوب الجائعة والفقيرة والمنهكة والمظطهدة ان لا تمارس الفساد ، هذه الصراعات في عالمنا كلفت البشرية ملايين وملايين من الأبرياء قتلوا بسبب هذه الصراعات اللاإنسانية والعبثية ، صدقت يا دوستويفسكي ان الذين يقولون الحقيقة والذين يدركون بوعيهم وصدقهم يخسرون دائماً الصراع امام جيش الكذابين والمتخلفين والاميين ومتحجري العقول .

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *