معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1853

لا يلدغ المؤمن من جحر واحدٍ مرتين…الانتخابات العراقية بين الخداع المتكرر ووعي الشعب ..

حجم الخط

أ. د. محمد طاقة

قال رسول الله محمد (ص) ، (( لايلدغ المؤمن من جحر واحدٍ مرتين )) . نبّه رسول الله في هذا الحديث الشريف ، المؤمنين من الحذر الذي لا يخدع مرتين من نفس المصدر ، أي أنّ المؤمن إذا خُدع أو أصيب بمكروه من جهة ما ، فإنّه يتعلم من التجربة ولا يسمح لنفسه بأن يقع في نفس الخطأ ثانية .
لكن ما بالنا اليوم وقد لُدغنا أكثر من عشرين مرة خلال عقدين من الزمن ، وما زال البعض يتهيأ للذهاب إلى صناديق الاقتراع لانتخاب نفس الوجوه والأحزاب التي جلبت على العراق الدمار والخراب ؟
لقد أثبتت السنوات العشرون الماضية أنّها أشد الفترات قسوة في تاريخ العراق الحديث ، اذ عانى العراقيون فيها من الاضطهاد والتشريد والقتل والسجون ، وشهد البلد انهياراً شاملاً في الخدمات العامة وتفشياً للفساد بكلِّ اشكاله ، المالي والإداري والاخلاقي ، حتى غدت الدولة غارقة في نظام ثيوقراطي فاسد دمّر البنية الاقتصادية والاجتماعية والاخلاقية للمجتمع العراقي .
فبعد عشرين عاماً من الفساد والفشل بلغ معدل الفقر في عام (2021) ليصل إلى (31،7%‎) ، كما لا يزال أكثر من (‎12 %) من العراقيين يعانون حرماناً حقيقياً في التعليم والخدمات أو الدخل .
وتقدر معدلات البطالة العامة في العراق ما بين (15-16 ‎‎‎%‎) في السنوات الأخيرة بينما ترتفع بين الشباب الفئة العمرية بين (15- 24 سنة) إلى أكثر من (30 ‎%‎) . أما بالنسبة للأمية ، وبالرغم من ما يمتلكه العراق من تاريخ عريق في التعليم ، فقد ارتفعت معدلات الأمية بشكل مقلق ، إذ تشير تقارير اليونسكو لعام (2022) إلى نحو (12) مليون إنسان أمي أو أكثر يعيشون اليوم بلا تعليم فعلي ، بعد أنْ كان العراق في سبعينات القرن الماضي نموذجاً إقليمياً في محو الامية .
منذ عام (2003) وحتى اليوم ، نُهبت من خزينة العراق مبالغ خيالية لايُمكن حصرها على الإطلاق وتقدر بمئات المليارات ، وبحسب تقارير ديوان الرقابة المالية العراقية وخبراء الاقتصاد تجاوزت ال (450) مليار دولار وهي بالحقيقة أكثر من ذلك بكثير .
ومنها فضيحة تُعرف بسرقة القرن والتي سرقت فيها (2،5) مليار دولار من اموال الضرائب العامة .
وبحسب تقديرات غير رسمية فإنّ مجموع ما فقد بسبب الفساد والمشاريع الوهمية ورواتب الموظفين الأشباح وغيرها من مصادر الإيرادات المختلفة تصل كحد أدنى إلى (2) ترليون دولار تقريباً .
وهكذا تحول الاقتصاد العراقي إلى اقتصاد ريعي هش مرهون بالكامل لإيرادات النفط ، ومكبّل بالارتباط المالي والتجاري مع الاقتصاد الإيراني ، حتى أصبح البلد فعلياً تابعاً سياسياً واقتصادياً لإيران من خلال نفوذ المليشيات المسلحة والحشد الشعبي ، الذي يهيمن على القرار الأمني والسياسي .
كان من أهداف الاحتلال الامريكي وحكومات الاحتلال المتعاقبة على حكم العراق تفكيك ركائز القوة الوطنية العراقية .
فخلال العقدين الماضيين ، تم اغتيال اكثر من (1500) عالم وأكاديمي ، وتهجير الآلاف منهم ، وتمت ملاحقة آلاف الضباط الوطنيين الذين خدموا في الجيش العراقي الوطني قبل عام (2003) ، كما تم إقصاء المثقفين والأطباء واساتذة الجامعات ، ممّا أدى إلى تفريغ العراق من كفاءاته وتحطيم الطبقة الوسطى التي كانت تمثل عماد التطور والإنتاج الوطني .
لقد تحول إلى طبقتين ، قلة تملك السلطة والثروة ، وغالبية مسحوقة بالكاد تجد قوتها اليومي .
إلى جانب الفساد المالي ، انتشر الفساد الاخلاقي بصورة غير مسبوقة ، فالمخدرات التي كانت نادرة في العراق قبل عام (2003) أصبحت اليوم تتداول علناً ، وتحولت بعض المحافظات الجنوبية إلى ممر رئيسي لتهريبها من إيران .

ما أدّى إلى تفكيك النسيج الاجتماعي وتدمير الشباب ، في ظل غياب القانون وتواطؤ الأجهزة الأمنية والسياسية .
إضافة إلى ما تقدم ، تُرك العراق بلا صناعة وطنية ، بعد أنْ تم إغلاق معظم المصانع والمشاريع الانتاجية ، وبلا زراعة بعد تدمير البنية التحتية للري والمياه ، وبلا خدمات بعد أنْ فشلت الحكومات المتعاقبة في تأمين أبسط حقوق الانسان ، الماء والكهرباء والتعليم والصحة والسكن اللائق .
لقد تم تحطيم كلّ مقومات التنمية المستدامة وتحويل العراق إلى سوق استهلاكي تهيمن عليه السلع الإيرانية ، وإلى بلد يعتمد على الاستيراد حتى أبسط احتياجاته .
فكيف تلدغ مرة اخرى أيّها العراقي ؟
ومع كلّ ذلك ، ما زال هناك من يستعد للذهاب إلى صناديق الاقتراع لكن مَنْ هم هؤلاء ؟
غالباً لا تتجاوز نسبتهم من ( 10‎ %‎ -12‎ %‎) من مجموع الناخبين وهم أما :
⁃ اتباع لإحزاب موالية إلى ايران .
⁃ أو فقراء يغريهم المال الانتخابي .
⁃ أو من الأميين والسذج الذين يقادون باسم الدِّين والمذهب .
⁃ أو من الخاضعين لتأثير المرجعيات الدينية والسياسية المتنفذة .
أما الأغلبية الصامتة ، من أبناء العراق الحقيقيين ، فقد أدركت أنّ لا ديمقراطية في ظلّ الاحتلال الأجنبي ونظام الميليشيات وأنّ المشاركة في انتخابات مزورة ومحسومة مسبقاًً ما هي إلاّ تجديد للخراب وتوقيع على استمرار الفشل .
يا أبناء العراق الشرفاء :
لقد أوصانا رسولنا الكريم محمد (ص) بالحذر فقال (( لايلدغ المؤمن من جحر واحدٍ مرتين )) ونحن اليوم نكاد نلدغ للمرة العشرين من الجحر نفسه .
فلنحكِّم عقولنا ، ولنرفض المشاركة في انتخابات صورية لا تعبِّر عن إرادة الشعب ، ولنرفع أصواتنا عالياً بالمقاطعة الواعية حتى نسقط شرعية هذا النظام الفاسد ، ونفتح باباً جديداً نحو تحرير الإرادة الوطنية ، وبناء دولة حقيقية قائمة على العدل والمواطنة والكفاءة لا على الطائفية والنهب والتبعية .

عمان
في 10/11/2025

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *