أ. د. محمد طاقة
تعد الشخصية بشكل عام نتاجاً معقداً للثقافة الاجتماعية والتاريخية التي يتفاعل معها الفرد ، منذ لحظة ولادته وحتى لحظة نضوجه ، يتداخل في تكوين هذه الشخصية العديد من العوامل التي تشمل جوانب تاريخية ، نفسية ، مناخية ، وحتى جينية ، مما يساهم في تشكيل السمات والخصائص التي يتميز بها كل فرد .
ولعل من ابرز هذه السمات التي تظهر بوضوح في المجتمع العراقي هي ( عقدة القيادة والتسلط ) ، وهي ظاهرة باتت تاخذ طابعاً لافتاً في الشخصية العراقية المعاصرة .
فما الذي يجعل هذه العقدة ظاهرة سائدة لدى العراقيين ؟
وهل هي مجرد نتاج تفاعلي لتاريخ طويل من الحضارات ام ان هناك عوامل اخرى تساهم في تشكيلها ؟
منذ ان يفتح الفرد عينيه على الحياة ، تبدأ الثقافة الاجتماعية والتاريخية في العراق بتشكيل شخصيته ، فالعراقيون يعيشون في بيئة ثقافية فريدة مليئة بالموروثات الاجتماعية والتاريخية التي تلعب دوراً حاسماً في تشكيل تطلعاتهم وآرائهم .
ومع تعرض العراق لتقلبات سياسية واقتصادية متواصلة على مدار العقود الماضية ، نجد ان المجتمع العراقي قد عانى من تحولات كبيرة انعكست بشكل خاص على العلاقة بين الأفراد وقياداتهم .
ولقد ساهم تاريخ العراق العريق في تشكيل شخصية الفرد العراقي بشكل خاص ، فقد عاش العراقيون تحت إمبراطوريات عظيمة مثل اكد وسومر وبابل وآشور ، التي قد تكون قد شكلت لديهم القدرة على القيادة وحب السيطرة على الآخرين ، فمنذ العصور القديمة كان حكام العراق يشتهرون بقوة الشخصيات القيادية ، حيث لعبت هذه الإمبراطوريات دوراً مهماً في تشكيل ثقافة القيادة .
ولقد قام هؤلاء الحكام ببناء مدن عظيمة وقدموا إسهامات كبيرة للبشرية في مجالات عديدة مثل الكتابة والفلك والهندسة ، مما أسهم في تعزيز عقدة القيادة لدى الشعب العراقي، حيث تمثل القيادة مصدر فخر وقوة .
وهنا لا يمكن إغفال دور المناخ العراقي في تشكيل الشخصية العراقية بشكل عام ، فالعراق يتمتع بمناخ حار جاف صيفاً وبارد قارص شتاءً .
هذا التباين الحاد في درجات الحرارة قد أسهم في تشكيل طبيعة الإنسان العراقي التي تتميز بالقوة والصلابة والقدرة على التكيف مع التحديات .
كما ان التغيرات المناخية القاسية قد تساهم في تعزيز روح التحدي والتفوق لدى الفرد العراقي، مما جعله اكثر ميلاً للمطالبة بالقيادة والتسلط على الاخرين .
من جانب آخر ، قد يكون للعوامل الجينية دور في تشكيل الشخصية القيادية لدى الفرد العراقي ، بعض الدراسات تشير إلى ان الجينات قد تؤثر على السمات الشخصية ، مثل الميل نحو القيادة خاصة إذا كانت هذه السمات قد انتقلت عبر الأجيال .
لكن من الصعب الجزم بأن عقدة القيادة هي فقط نتيجة لعوامل جينية بحتة ، انما يتداخل التأثير الجيني مع العوامل الثقافية والتاريخية بشكل معقد لتنتج شخصية اكثر تسلطاً .
تعتبر البنية العشائرية والطائفية في العراق من العوامل الهامة التي تساهم في تشكيل شخصية القيادة لدى العراقيين .
فالعراق معروف بتنوعه العرقي والطائفي ، حيث يتعايش فيه العديد من الطوائف والمذاهب والقوميات .
في هذا السياق يعد التنافس العشائري والطائفي من اهم ملامح الحياة الاجتماعية في العراق ، فكلّ عشيرة او طائفة تسعى لابراز الزعيم الذي يمثلها ويتزعمها ، وهو يساهم في تعزيز ثقافة القيادة بما فيها ، ثقافة التسلط ، والسيطرة على الآخرين وفي الوقت نفسه ، تجد ان الأنظمة السياسية في العراق غالباً ما تنبع من هذا التنافس العشائري والطائفي ، حيث يتم اختيار القادة وفقاً لانتماءاتهم العشائرية والطائفية .
ومن هنا يمكننا القول كيف ان هذه العوامل قد أسهمت في تكريس مفهوم القيادة بشكل يتسم بالتسلط والتحكم .
كما تعتبر الاحزاب السياسية والحكومات في العراق من العوامل التي ساهمت في تعزيز عقدة القيادة ، فالدولة العراقية التي شهدت تغيرات كبيرة في حكوماتها منذ تأسيسها ، لعبت دوراً مهما في تشكيل ثقافة القيادة ، وكثيراً ما رأينا في التاريخ العراقي الحديث ، صراعاً مستمراً على السلطة بين القوى السياسية ، حيث كانت القيادة تتمحور حول سيطرة شخص او مجموعة على مقاليد الامور ، ونتيجة لذلك ، تراكمت في المجتمع العراقي أنماط من التفكير تدور حول القيادة والهيمنة ، مما جعل عقدة القيادة والتسلط سمة بارزة في العديد من المجالات سواءً في الدولة او المجتمع المدني او حتى في الاحزاب السياسية .
وبالتأكيد ان عقدة القيادة والتسلط تؤدي إلى عواقب سلبية كبيرة على المجتمع وخاصة في العراق ، هذه العقدة تعيق التنمية والتقدم ، حيث يسعى القادة المتسلطون إلى الحفاظ على مواقعهم ومكاسبهم الشخصية على حساب المصلحة العامة .
وفي كثير من الاحيان يتعرض العلماء والمفكرون والمبدعون للرفض والتهميش لانهم يشكلون تهديداً للأوضاع الراهنة ويستطيعون تحفيز التغيير .
هذا التوجه يساهم في انتهاك حقوق الإنسان ويتعارض مع مباديء الإعلان العالمي لحقوق الانسان التي تدعوا إلى الحرية والتطور والمشاركة في الحياة العامة وفي النهاية تؤدي هذه العقبات إلى تأخر المجتمع عن تحقيق التقدم المطلوب ، وتفاقم الازمات الاجتماعية والسياسية .
وأخيراً يمكننا القول ان عقدة القيادة والتسلط في الشخصية العراقية ليست مجرد ظاهرة عابرة ، بل هي نتاج مجموعة من العوامل الثقافية والاجتماعية والتاريخية والجغرافية ، ومن تاثير الحضارات القديمة وصراعات العصر الحديث ، مروراً بالعوامل المناخية والعشائرية والاجتماعية والبيئية ، تتشابك هذه العوامل لتشكل شخصيات عراقية تسعى دوماً للقيادة والتسلط على الآخرين .
ومع ذلك يبقى التحدي الأكبر هو كيف يمكن توجيه هذه الطاقة القيادية لتكون اكثر نضجاً وتفهماً وتقدماً ، بحيث لا تستغل في خدمة الفرد على حساب الجماعة ، بل تستثمر في بناء مجتمع متكامل يستفيد من هذه القدرة القيادية لرفع مكانته بين الامم ..