أ. د. محمد طاقة
سبق وان كتبت مقالاً بعنوان (( عالم تافه جداً )) وألفت كتاباً اسميته (( عالم محنون جداً )) ، واليوم أجدني اكتب واقعنا تحت عنوان (( عالم معتوه جداً )) .
نحن لا نعيش اليوم في عالم غريب الأطوار ، بل في مرحلة بلغت من الجنون والعبثية حداً لم تعرف البشرية له مثيلاً منذ ان وجد الانسان على وجه الارض .
لقد تجاوزنا حدود الانسانية والمنطق والعقل ، دخلنا نفقاً تقوده نخبة لا تمتلك من مقومات القيادة سوى المال والسلطة ، تمارس سلطتها على شعوب مسحوقة ومضطهدة ، بطريقة لم يعرف لها مثيل حتى في عصور العبودية والظلام .
ماذا نعني بكلمة معتوه ؟
المعتوه في اللغة العربية هو من نقص عقله وفسد تدبيره ، وهذا الوصف لا يمكن ان يكون اكثر دقة حين نُسقطه عل أولئك الذين يديرون شؤون العالم اليوم .
فمنطق الإدارة والسياسة الدولية بات قائماً على التدمير والتجويع والسيطرة ، لا على بناء الإنسان او خدمة البشرية .
يعيش الإنسان اليوم في عالم يزداد اضطراباً ، حيث تتسارع الاحداث ويحتدم الصراع بين القوى الكبرى ، وتتفاقم الأزمات التي تعصف بمصير الشعوب والمجتمعات .
ورغم التقدم التكنولوجي الهائل الذي حققته البشرية ، فإن الواقع يشهد على انهيار القيم الاخلاقية ، وتنامي مظاهر الظلم والاستغلال ، في هذا السياق تأتي هذه المقالة لتسليط الضوء على طبيعة النظام العالمي الراهن وتحاول تفكيك معالم ما يمكن تسميته ب (( العبودية المعاصرة )) التي تحكم قبضتها على شعوب الارض مدفوعة بجنون السلطة ورأس المال .
لم تمر البشرية منذ نشأتها ، بمرحلة اكثر عبثية وغير إنسانية لما نشهده اليوم ، فالعالم يدار من قبل نُخب مالية وسياسية ، لا تملك من مقومات القيادة شيئاً سوى احتكار ادوات السيطرة (( المال ، الاعلام ، التكنولوجيا ، والسلاح )) هؤلاء لا تحركهم القيم والمباديء ، بل تحركهم مصالحهم الضيقة ، في نظام عالمي تافه ومجنون ومعتوه ، هذه الأوصاف تنطبق حرفياً على من يقودون النظام العالمي اليوم ، حيث تسود السياسات المدمرة ، ويتعمق التفاوت الطبقي ، وتسحق الشعوب تحت رحمة العولمة المتوحشة .
لقد تحول العالم إلى مزرعة ضخمة تسيطر عليها نخب مالية محدودة ، يقدر عددها بين (( خمس إلى ست عائلات )) تتحكم في الإعلام العالمي والصناعات الحربية والدوائية وشركات الطاقة والمياه وشركات التكنولوجيا ، كذلك في المؤسسات الدولية الكبرى مثل (( مجلس الامن ، وصندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية )) هذه الطبقة تمتلك ثروات تتجاوز ال ((500)) ترليون دولار ، أي ما يفوق الناتج المحلي الاجمالي لجميع دول العالم مجتمعة ، وقد ادى هذا التمركز الهائل للثروة إلى هيمنة مطلقة على القرار السياسي والاقتصادي العالمي .
نحن اذن اليوم نعيش مرحلة العبودية ، ولكن بشكل اكثر تطوراً وبطرق مختلفة .
يؤكد هذا الوضع أيضاً ما يمكن تسميته ب (( دكتاتورية راس المال )) ، حيث تتحول الحكومات الوطنية إلى ادوات في يد القوى الاقتصادية الكبرى ، وتصبح إرادة الشعوب مجرد صوت خافت لا يسمع في ضجيج المصالح الدولية .
يُظهر المشهد الدولي اليوم تصاعداً في الصراع بين المحور الأمريكي الرأسمالي والمحور الصيني الصاعد ، في حرب باردة جديدة تتخذ طابعاً اقتصادياً وتجارياً حالياً ، ولكنها مرشحة لان تنفجر في شكل مواجهة عسكرية شاملة مستقبلاً .
امتلاك هذه القوى لأسلحة الدمار الشامل وتكنولوجيا فائقة التطور يجعل هذا الاحتمال كارثياً على الإنسانية والبيئة ، فبدلاً من توظيف هذه الإمكانيات لرفاه البشرية ، تستخدم اليوم في خدمة الهيمنة ونهب ثروات الشعوب ، خصوصاً في دول الجنوب ، ونورد هنا بعض مؤشرات الانهيار الإنساني :
يعيش اكثر من(( 10 % )) من سكان العالم تحت خط الفقر المدقع ( يحصل الفرد اقل من (( 2،15 )) دولار في اليوم ) ، ويعيش نصف سكان العالم ((56%)) حالياً ويحصل على اكثر من (( 7)) دولار في اليوم الواحد .
يقدر عدد العاطلين عن العمل عالمياً باكثر من ((402)) مليون نسمة ويعاني اكثر من ((770)) مليون نسمة من الامية اي ما يعادل نحو ((14%)) من سكان العالم ، وتُنهب من الدول النامية ما يقدر ب (2) ترليون دولار سنوياً عبر التجارة الغير عادلة والتهرب الضريبي وتدفقات الشركات المتعددة الجنسيات .
هذه الأرقام تكشف لنا عمق الفجوة بين ما يقال عن التنمية وحقوق الإنسان وما يجري فعلياً على الارض .
ولنأخذ فلسطين كنموذج للوجه القبيح للنظام اللاإنساني ، فمنذ عام (1948) وحتى يومنا هذا ، يُمارس على الشعب الفلسطيني ابشع أنواع الظلم والقتل والتهجير والتدمير ، في مشهد يجسد وحشية المنظومة الرأسمالية والصهيونية العالمية ، ما يجري حالياً في غزة من مجازر يومية وقتل الأطفال والنساء وتدمير المنازل فوق رؤوس ساكنيها ، تُعد جريمة ضد الإنسانية بكل المقاييس ، ودليلاً دامغاً على جنون هذا النظام العالمي واختلال انسانيته .
ان الذي يجري في غزة والعالم لا يقبله العقل والمنطق ولا تقبله الإنسانية المفقودة لدى هؤلاء ، وكل ذلك يؤكد من ان القيادة الاسرائيلية والصهيونية العالمية ما هم إلا ناس معتوهين بكل معنى الكلمة ، ناس فقدوا إنسانيتهم فهم ليس من صنف البشر ناس مجرمين قتلة تافهين مجانين معتوهين ، شواذ .
ان ما يجري في غزة والعراق ومنطقة الشرق الأوسط والعالم يؤكد لنا اننا نعيش وسط عالم مشوه لا إنساني فقد كل القيم الاخلاقية والانسانية ، نعيش وسط عالم معتوه جداً وهذه هي العبودية المعاصرة ، اننا نعيش في عالم تافه ، مجنون ، معتوه ، عالم طغت فيه المادية على كل ما هو إنساني ، عالم اصبحت فيه الكلمة العليا للربح والخداع والكذب ، وقلب الحقائق وتشويه المفاهيم .
تقتل الشعوب من اجل النفط والمعادن النادرة والموقع الجغرافي ، وتُشرع الحروب باسم حقوق الإنسان زوراً ، عالم لم يعد فيه مكان للقيم او الاخلاق ، وانما للمصالح ورأس المال فقط ، واذا استمرّت هذه النخبة المريضة المعتوهة في التحكم بمصير البشرية ، فإننا لا محالة متجهون نحو حرب عالمية ثالثة قد تفني ما تبقى من الحياة .
انها كارثة تهدد وجودنا الإنساني ، والسبب في ذلك واضح ، لان من يتحكم بنا اليوم ليسوا بشراً ، بل معتوهين بالكامل ..
عمان
في 1/6/2025