معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1853

عالم معتوه جداً (( عبودية معاصرة يقودها المال )) ..

حجم الخط

أ. د. محمد طاقة

سبق وان كتبت مقالاً بعنوان (( عالم تافه جداً )) وألفت كتاباً اسميته (( عالم محنون جداً )) ، واليوم أجدني اكتب واقعنا تحت عنوان (( عالم معتوه جداً )) .

نحن لا نعيش اليوم في عالم غريب الأطوار ، بل في مرحلة بلغت من الجنون والعبثية حداً لم تعرف البشرية له مثيلاً منذ ان وجد الانسان على وجه الارض .

لقد تجاوزنا حدود الانسانية والمنطق والعقل ، دخلنا نفقاً تقوده نخبة لا تمتلك من مقومات القيادة سوى المال والسلطة ، تمارس سلطتها على شعوب مسحوقة ومضطهدة ، بطريقة لم يعرف لها مثيل حتى في عصور العبودية والظلام .

ماذا نعني بكلمة معتوه ؟

المعتوه في اللغة العربية هو من نقص عقله وفسد تدبيره ، وهذا الوصف لا يمكن ان يكون اكثر دقة حين نُسقطه عل أولئك الذين يديرون شؤون العالم اليوم .

فمنطق الإدارة والسياسة الدولية بات قائماً على التدمير والتجويع والسيطرة ، لا على بناء الإنسان او خدمة البشرية .

يعيش الإنسان اليوم في عالم يزداد اضطراباً ، حيث تتسارع الاحداث ويحتدم الصراع بين القوى الكبرى ، وتتفاقم الأزمات التي تعصف بمصير الشعوب والمجتمعات .

ورغم التقدم التكنولوجي الهائل الذي حققته البشرية ، فإن الواقع يشهد على انهيار القيم الاخلاقية ، وتنامي مظاهر الظلم والاستغلال ، في هذا السياق تأتي هذه المقالة لتسليط الضوء على طبيعة النظام العالمي الراهن وتحاول تفكيك معالم ما يمكن تسميته ب (( العبودية المعاصرة )) التي تحكم قبضتها على شعوب الارض مدفوعة بجنون السلطة ورأس المال .

لم تمر البشرية منذ نشأتها ، بمرحلة اكثر عبثية وغير إنسانية لما نشهده اليوم ، فالعالم يدار من قبل نُخب مالية وسياسية ، لا تملك من مقومات القيادة شيئاً سوى احتكار ادوات السيطرة (( المال ، الاعلام ، التكنولوجيا ، والسلاح )) هؤلاء لا تحركهم القيم والمباديء ، بل تحركهم مصالحهم الضيقة ، في نظام عالمي تافه ومجنون ومعتوه ، هذه الأوصاف تنطبق حرفياً على من يقودون النظام العالمي اليوم ، حيث تسود السياسات المدمرة ، ويتعمق التفاوت الطبقي ، وتسحق الشعوب تحت رحمة العولمة المتوحشة .

لقد تحول العالم إلى مزرعة ضخمة تسيطر عليها نخب مالية محدودة ، يقدر عددها بين (( خمس إلى ست عائلات )) تتحكم في الإعلام العالمي والصناعات الحربية والدوائية وشركات الطاقة والمياه وشركات التكنولوجيا ، كذلك في المؤسسات الدولية الكبرى مثل (( مجلس الامن ، وصندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية )) هذه الطبقة تمتلك ثروات تتجاوز ال ((500)) ترليون دولار ، أي ما يفوق الناتج المحلي الاجمالي لجميع دول العالم مجتمعة ، وقد ادى هذا التمركز الهائل للثروة إلى هيمنة مطلقة على القرار السياسي والاقتصادي العالمي .

نحن اذن اليوم نعيش مرحلة العبودية ، ولكن بشكل اكثر تطوراً وبطرق مختلفة .

يؤكد هذا الوضع أيضاً ما يمكن تسميته ب (( دكتاتورية راس المال )) ، حيث تتحول الحكومات الوطنية إلى ادوات في يد القوى الاقتصادية الكبرى ، وتصبح إرادة الشعوب مجرد صوت خافت لا يسمع في ضجيج المصالح الدولية .

يُظهر المشهد الدولي اليوم تصاعداً في الصراع بين المحور الأمريكي الرأسمالي والمحور الصيني الصاعد ، في حرب باردة جديدة تتخذ طابعاً اقتصادياً وتجارياً حالياً ، ولكنها مرشحة لان تنفجر في شكل مواجهة عسكرية شاملة مستقبلاً .

امتلاك هذه القوى لأسلحة الدمار الشامل وتكنولوجيا فائقة التطور يجعل هذا الاحتمال كارثياً على الإنسانية والبيئة ، فبدلاً من توظيف هذه الإمكانيات لرفاه البشرية ، تستخدم اليوم في خدمة الهيمنة ونهب ثروات الشعوب ، خصوصاً في دول الجنوب ، ونورد هنا بعض مؤشرات الانهيار الإنساني :

يعيش اكثر من(( 10 ‎%‎ )) من سكان العالم تحت خط الفقر المدقع ( يحصل الفرد اقل من (( 2،15 )) دولار في اليوم ) ، ويعيش نصف سكان العالم ((56‎%‎)) حالياً ويحصل على اكثر من (( 7)) دولار في اليوم الواحد .

يقدر عدد العاطلين عن العمل عالمياً باكثر من ((402)) مليون نسمة ويعاني اكثر من ((770)) مليون نسمة من الامية اي ما يعادل نحو ((14‎%‎)) من سكان العالم ، وتُنهب من الدول النامية ما يقدر ب (2) ترليون دولار سنوياً عبر التجارة الغير عادلة والتهرب الضريبي وتدفقات الشركات المتعددة الجنسيات .

هذه الأرقام تكشف لنا عمق الفجوة بين ما يقال عن التنمية وحقوق الإنسان وما يجري فعلياً على الارض .

ولنأخذ فلسطين كنموذج للوجه القبيح للنظام اللاإنساني ، فمنذ عام (1948) وحتى يومنا هذا ، يُمارس على الشعب الفلسطيني ابشع أنواع الظلم والقتل والتهجير والتدمير ، في مشهد يجسد وحشية المنظومة الرأسمالية والصهيونية العالمية ، ما يجري حالياً في غزة من مجازر يومية وقتل الأطفال والنساء وتدمير المنازل فوق رؤوس ساكنيها ، تُعد جريمة ضد الإنسانية بكل المقاييس ، ودليلاً دامغاً على جنون هذا النظام العالمي واختلال انسانيته .

ان الذي يجري في غزة والعالم لا يقبله العقل والمنطق ولا تقبله الإنسانية المفقودة لدى هؤلاء ، وكل ذلك يؤكد من ان القيادة الاسرائيلية والصهيونية العالمية ما هم إلا ناس معتوهين بكل معنى الكلمة ، ناس فقدوا إنسانيتهم فهم ليس من صنف البشر ناس مجرمين قتلة تافهين مجانين معتوهين ، شواذ .

ان ما يجري في غزة والعراق ومنطقة الشرق الأوسط والعالم يؤكد لنا اننا نعيش وسط عالم مشوه لا إنساني فقد كل القيم الاخلاقية والانسانية ، نعيش وسط عالم معتوه جداً وهذه هي العبودية المعاصرة ، اننا نعيش في عالم تافه ، مجنون ، معتوه ، عالم طغت فيه المادية على كل ما هو إنساني ، عالم اصبحت فيه الكلمة العليا للربح والخداع والكذب ، وقلب الحقائق وتشويه المفاهيم .

تقتل الشعوب من اجل النفط والمعادن النادرة والموقع الجغرافي ، وتُشرع الحروب باسم حقوق الإنسان زوراً ، عالم لم يعد فيه مكان للقيم او الاخلاق ، وانما للمصالح ورأس المال فقط ، واذا استمرّت هذه النخبة المريضة المعتوهة في التحكم بمصير البشرية ، فإننا لا محالة متجهون نحو حرب عالمية ثالثة قد تفني ما تبقى من الحياة .

انها كارثة تهدد وجودنا الإنساني ، والسبب في ذلك واضح ، لان من يتحكم بنا اليوم ليسوا بشراً ، بل معتوهين بالكامل ..

عمان

في 1/6/2025

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *