معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1853

الأعياد الدينية تحتظر رمزيتها يوما بعد يوم ..!

حجم الخط

بقلم الأستاذ:لبيك صابر/تبسة_الجزائر

أرسى الله المناسبات الدينية ليثير في المجتمعات الإسلامية ذلك اللولب من الرحمة ،وليُحدِّث فيهم مستودع القيم ويعيد دواسة التَّراحم ،فلم تكن الأعياد إلا محركات قيميَّة تخلق نفسًا جديدًا لذلك المجمع الروحي وتعيد أوزان القبول وترميم العلاقات المتصدِّعة التي أصابها الإكراه ووزاع النفور ،وكان لزامًا أن تكون هناك صور احتفاء قوية تعدُّ تماسكاً جديدًا وتزيل برود قيصري هدَّام قد يهدِّد سلطان تلك المواثيق الاجتماعية، ويصنع بينها حالة الشرود والإقصاء والتعامل بمشاعر من الرفض ،وبالتالي اهتدت الرِّعاية الربَّانية في أن تجعل الأعياد صورة رمزية تعيد ترتيب ضواحي المجتمع وتعزز من وجوده وتديم قرانه،فصورة العيد التي جاء بها الإسلام هي تخطيط قيمي بارع يهدف إلى ربط المجتمع عاطفيا وماديا ،ويحافظ بذلك على هذا المجمع المتراص ،ولعل مستقبل هاته الأعياد في البيئة العربية بات يظهر الكثير من العرج اليوم ويفقد الكثير من تلك الأحجام القيمية ،نتيجة دخول العصرنة من جهة وتعرُّض المَركب الاجتماعي اليوم للحطام وضياع بوصلته ،أين باتت العلاقات تُنفى شيئًا فشيئًا، وغدت المشاعر رقمية أكثر منها تجسيدا على الواقع ،فتحوَّل العيد إلى قالب اجتماعي خامل المشاعر ويفتقر إلى فعالية ترجحه في أن يقيم حقيقةً أوزان هذه المناسبة العظيمة ،ومن هنا كانت الأعياد الدينية عبارة عن تحوُّل لموقف عاطفي متجرد يرى المناسبة إيقاعاًليوم وبات يَجرُّها إلى فقدان حملها البهيج الذي جاء وفكرة تنمية المجتمع الإسلامي وفق طابع من السرور والتلاحم والمودة، ففرض ذلك حالة من الاِستلقاء النَّاعم في استقبال هذه المواعيد وإدراجها ضمن يوم معيشي بعيدًا عن هستيريا الأفراح الحقيقية ،وهذا مايجعلنا نسوق المسألة إلى أمرها الموضوعي ونطرق باب الاستفسار عن أخلاقيات المجتمع، ونوضح فيها بعض بؤر الهوان التي فصلت العظام عن لحمها وخلَّفت لنا بقايا مجتمع مُهتز ،وأصبح يضع الأعياد والمناسبات الدينية تحت انطواءٍ واحدٍ من الأهمية الخافتة وشغور في القيم القلبية والعاطفية التي جاء بها الإسلام وأردفها كقوة فيزيائية لتجديد الدماء وإقامة الصلح ،حتى لا تتحوَّل القلوب إلى مستحاثة وجماد فارغ وباهت يستقبل هذه المضخات من الزهاء ويتعامل معها بالإعراض والتخلي ..!!!

داخليًا وخارجيًا مما جعلنا نستقبل أعياداً معزولة الهوية وأصبحت فعل صامت اليوم في العالم الإسلامي ،فالأضحية كزاد يُعبر عن شؤون هاته المناسبة الدينية التي وصلت إلى حد مُتقدِّم من الهوان نتيجة تضخم في الأوضاع البنكية وتكلفة هاته الأضحية، مما شكَّل فقراً على المستوى الاجتماعي في استعادة هذا الرمز وإحياء هذا الموعد الإسلامي المقدَّس ،فالوضع الاجتماعي ومايعيشه المسلم اليوم يقف فيه مكتوف الأيدي ولايحرك ساكنًا في توفير هذا العنصر المهم خصوصًا أن الأضحية تدخل كذلك في خانة الرمزية ،وهذه الرمزية هي الأخرى تتعلق بالتقرب إلى الله وبعث السرور تحت سقف البيت الواحد لأن عيد الأضحى تختلف خصاله في طبيعة إقامته عن المناسبات الأخرى في كونه تسيير إيماني يُعدِّل فيه المؤمن سلوكاته مع خالقه، ضف لذلك أنها محطة تحكي قصة مبدأ إسلامي وتنفيذ لشريعة ربَّانية قويمة ،وبالتالي فهذا النوع من المناسبات تهميشه وتغييب العناية به يعني تعطُّل آخر في تحضير مركباته، لأنه يرتبط بأثر مادي يحمل مواصفات رمزية مقدَّسة ووضع الأضحية باب من أبواب المزاد الكاسح خلق توعر في نسب الحصول عليها وحولها إلى قيم سوقية اقتصادية ونفعية لدى المستفيدين، الذين يملكون نوايا مبيتة وواضحة للعلن تريد أن تحول طابع الفرح إلى مأتم وتضع المؤمن الذي انقطع عن رمزية الأفراح يُصنِّف هذه المناسبة هي الأخرى كيوم طبيعي مكبوت ،ويمكن أن نقول في هذا الباب أن الصراع الرمزي لمناسبة “عيد الأضحى” أخذ مساحة وسياقات أخرى بين الصراع الاقتصادي والاجتماعي والديني ،وبين بغية مجتمع يريد توفير الأضحية بأجيب مُحطَّمة يُمنِّي فيها نفسه في توفير جو يتامشى وهذه المناسبة التي تعكس مستوى تفاعل اجتماعي يُعبر فيه عن ولائه الديني والقيمي.

*اختلاف الوعي بين الحياة الكلاسيكية والمعاصرة:

 

لايمكن أن ننفي فكرة أن الوعي الثقافي الذي كان موضوع تصور لهذه المناسبات تخلخل بعض الشيء وانقشعت فيه الكثير من المبادىء القيمية تَمثلت في وتيرة التعامل والتعاطي مع هذا المحفل ،فدخول الآلة التكنولوجية كما أسلفنا سابقًا جعل العيد يأخذ سعادة رقمية باهتة ومختصرة تَحصر المشاعر وتجعلها تعيش حالة من الركود والاختصار الميِّت ،الذي أفقد فاعلية المناسبة وترك منها مناسبةً جامدةً منقطعةً عن المضمون القيمي ،فالآلة التكنولوجية التي كانت محلَّ تطور وعي ثقافي وعلمي رقمي لم تكن إضافة لإنسان اليوم، بقدر ماكانت سُبل جديدة في التَّجرد من مشاعر الأمس ومقتضياتها التي كان يمثلها الإنسان ويسهر على تطبيقها ،كونه كان يرى أن الأعياد مناسبات قدسية ومواعيد التزام للمخلوق مع خالقه ،هذا التواصل الروحاني قضت عليه آلة اليوم وجعلته يتحول إلى مردود إلكتروني أجوف يتعامل بثقافة معاصرة هي من تتحكم في أولويات العيد وتُسيِّره بطرق تنفيذية سريعة تغيب فيها المشاعر والأحاسيس الدينية ،فبات اليوم التواصل الجسدي والحضوري يتم اختزاله وحصره على ملامسات الأيقونة ،مما فرض بشكل حتمي رسائل غير لغوية واضحة هي من تُنظِّم مواصلات العيد وتلغي صفة الإنسان وتعفيه، وهذا الفعل الرقمي هو من خلق هذا التَّخلف الفكري والعاطفي وجعلنا نقف في أماكن معزولة تمنعنا من توظيف مشاعرنا صوتًا وصورةً ،فالحياة الكلاسيكية السابقة كان للإنسان فيها دور مخضرم في إرساء قواعد أخلاق دينية وإنسانية، ولم ينعزل يومها عن مخزون هاته القيم التي خلقها اللقاء والتواصل الجسدي الحقيقي ،فجاءت الآلة ووسائط التواصل لتمضي شهادة وفاة وتضع حواجز بين نفس الإنسان وتخلق منه تابعًا ومواكبًا لامُنفذًا لخصاله الحقيقية التي أمره الله بها وطلب منه توظيفها بشكل حضوري حتى يُعزِّز من كيانه ،لكن الصدام مع الوضع التكنولوجي العصري اليوم جرَّد آلية الإنسان وتركه يدير مشاعره بوظائف خارجية برمجية ساخرة لاتعكس صفته كإنسان ولاتعبِّر عن مصادر أحاسيسه الحقيقية ،فكانت مشقة الأمس في التواصل واللقاء أعطت نشوة وفرحة لهذه المناسبات وجعلتها موعد أخلاقي وديني قويم لايستند إلى أي وسائط بقدر ما ماكان تعبير فعَّال عن الملامح الحقيقية والوجدانية بشكل أمثل .

*خلاصة :

 

إن معركة التَّنوير التي يخوضها الإنسان المعاصر مع الرقمنة ومستجدات الوضع التكنولوجي خرقت بشكل غير محدود مواضع المناسبات الدينية بشكل قسري ،وجعلتها مناسبات تموت في كل عهد زمني مستقبلي نتيجة أفكار برمجة مصنوعة أفرغت الإنسان من هويته وجعلته معطى عصري يستقبل المناسبة بشكل أجوف ومميع دون أي تسجيل لعمليات إحياء حقيقية، تتمثل في استثمار المناسبة وخلق لقاءات بين الأسر والمجتمعات داخل حوضها الواحد ،هذا السُّلوك الرقمي بات يسرق حياة البهجة وبقي يزرع ألغام التفرقة أكثر، وفي كل مناسبة دينية نُسجِّل حالة فراغ واضحة تعكس اِنقلاب في المشاعر وعدم تحديد أي موقف اعتبار لها أو تقديسها بشكل مثير ،فالحياة الفكرية العصرية المُهكَّرة أثرت على الجانب القيمي للإنسان وتركته يستسلم أمام الآلة مما نزع منه الجانب القيمي والرمزية لتلك الأعياد، كما نجد بالمقابل أن هناك عراقيل واضحة أخرى هي من خلقت عسر مالي في توفير احتياجات هذه المناسبات، ماجعل الأعياد تعيش خراب رمزي ومادي بات المجتمع اليوم يمشي على خطاه ويضع هاته المواعيد في كفة من التَّغييب العاطفي المختصر ،ثم إن النظرة البراغماتية النفعية المُتسلطة فتحت من عيد الأضحى نافذَةً للاستثمار من خلال الأضحية، وتوظيفها في مشاعر اقتصادية دنيئة تجعل منها قيمة سوقية لتلبية أغراض طمعية يسوقها أشخاص يسهرون على عرقلة مضامينها الدينية والأخلاقية، التي جاء بها الإسلام وسعى سعيًّا في تحقيقها بين الأفراد المسلمين والنتيجة اليوم خلَّفت لنا مجتمع مسلم يُسير مواعيده الدينية بتسيير عاطفي وأخلاقي وفكري مشلول وغير مُشرِّف

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *