أ. د. محمد طاقة
يعد التعداد السكاني من الأدوات الأساسية التي تعتمد عليها الدول لتحديد عدد السكان وتوزيعهم الجغرافي ، إلى جانب الحصول على بيانات تفصيلية حول الوضع الاجتماعي والاقتصادي لهم .
كما يعتبر التعداد السكاني ركيزة مهمة في التخطيط لمستقبل أي دولة من حيث التنمية الاقتصادية والخدمات الاجتماعية .
لكن في ظل ظروف غير مستقرة ، يصبح السؤال المحوري هل من الممكن اجراء تعداد سكاني في بلد يشهد تدهوراً امنياً واقتصادياً ، خاصة في حالة العراق الذي يعاني من الصراعات السياسية والاحتلال والفساد ؟
التعداد السكاني هو عملية جمع بيانات دقيقة عن جميع السكان في دولة ما ، تتضمن معلومات تتعلق بعدد السكان ، التركيبة العمرية ، المستوى التعليمي ، الحالة الاجتماعية والوضع الاقتصادي ، الهدف الاساس من التعداد هو توفير بيانات موثوقة تستخدم في التخطيط والتنمية الوطنية ، سواء في تحسين الخدمات العامة او إعداد السياسات الاقتصادية والاجتماعية .
على الرغم من ان الهدف الرئيسي للتعداد السكاني هو جمع بيانات دقيقة لدعم التخطيط والتنمية ، إلا ان التعداد قد يكون اداة سياسية ايضاً .
قد يسعى بعض الحكام أو الانظمة إلى أستخدام التعداد السكاني للتأثير على التركيبة السكانية سواءً عبر تجنيس مهاجرين أو اعادة توزيع السكان لأغراض سياسية .
كما قد يستخدم التعداد السكاني لضمان تمثيل سياسي محدد في البرلمانات أو المجالس المحلية أو حتى في رسم حدود جديدة تتناسب مع المصالح السياسية .
اجراء التعداد السكاني في ظروف غير آمنة أو غير مستقرة يعد من التحديات الكبرى في بيئة آمنة هشة ، قد يكون من الصعب الوصول إلى مناطق النزاع أو التهجير القسري ، كما ان التعداد يتطلب ثقة بين الدولة والمواطن ، وهو ما يصعب تحقيقه في ظل انعدام الامن أو وجود مليشيات مسلحة ، في مثل هذه الظروف ، غالباً ما تكون البيانات غير دقيقة أو غير شاملة ، مما يؤدي إلى تشويه الواقع السكاني وبالتالي لا يمكن ضمان موثوقية ودقة النتايج في بيئة غير مستقرة .
في بلد محتل كالعراق ، قد يكون التعداد السكاني مسألة شائكة جداً ، لان الاحتلال غالباً ما يؤدي إلى تغيرات ديموغرافية قسرية مثل التهجير القسري أو التجنيس لمواطني دول الاحتلال ، اجراء تعداد في مثل هذه الظروف قد يستخدم لتثبيت الواقع الجديد أو لإضفاء شرعية على الإجراءات السياسية التي تتبعها الدولة المحتلة ، بالإضافة إلى ذلك فان التعداد السكاني في بلد محتل غالباً ما يكون مشكوكاً فيه لانه قد يتعرض للتحريف او التلاعب لصالح الاحتلال .
هل يجوز اجراء تعداد في بلدٍ غارق بالفساد المالي والإداري والاخلاقي ؟
الفساد المالي والإداري قد يكون له تأثير بالغ على دقة نتائج التعداد السكاني ، إذا كانت الهيئات المسؤولة عن جمع البيانات والتعداد مفسدة أو غير شفافة فأن النتائج قد تكون مشوهة أو منحازة ، في البلدان التي تعاني من الفساد ، قد تستخدم الموارد المخصصة للتعداد في أغراض شخصية أو حزبية ، مما يقوض نزاهة العملية ، في هذه الحالة ، التعداد قد يصبح اداة تستخدم لصالح الفاسدين بدلاً من تحقيق مصلحة المجتمع .
في بلد يعاني من فقر شديد وغياب التنمية الاقتصادية ، قد تكون البيانات التي يتم جمعها من التعداد غير موثوقة أو غير قابلة للتطبيق في ظل غياب السياسات الاقتصادية التي تعزز الاستقرار الاجتماعي ، كما ان غياب التنمية يعني غياب البنية التحتية اللازمة لتنفيذ التعداد بشكل فعال .
في مثل هذه الحالات ، قد يكون من الأفضل انتظار تحقيق بعض الاستقرار الاقتصادي قبل الشروع في اجراء تعداد شامل .
هل يجوز اجراء تعداد في بلد يعاني من تشريد واسع النطاق ؟
في حالة العراق الذي يعاني من تهجير ملايين الاشخاص داخلياً وخارجياً بسبب الحروب والاحتلال ، يصبح اجراء التعداد أمراً معقداً جداً ، مع اكثر من ستة ملايين مهجر خارج البلاد وأكثر من مليونين مهجر داخل العراق ، يصعب تحديد العدد الدقيق للسكان الذين تركوا مناطقهم الأصلية .
هذا يشكل تحدياً اضافياً في جمع البيانات التي تمثل الواقع السكاني الفعلي ، كما أن الموجودين في السجون أو الاختفاء القسري لملايين الاشخاص يجعل من المستحيل جمع بيانات دقيقة عن هؤلاء الأفراد .
أن عمل تعداد في ظل تغيير ديموغرافي وتجنيس جماعي ، أي وجود تغيرات ديموغرافية واضحة المعالم مثل تجنيس الاف الإيرانيين والباكستانيين والهنود وغيرهم في العراق يجعل التعداد اكثر تعقيداً ويثير التساؤلات حول الشرعية ودقة البيانات ، ان تغيير التركيبة السكانية عبر التجنس قد يؤدي إلى تمثيل غير عادل في التعداد ، وهو ما يمكن ان يستخدم لأغراض سياسية لتعزيز تأثير فئات معينة على حساب الأخرى .
في العراق حيث تحكم المليشيات المسلحة الموالية لايران وغياب الدولة والقانون ، يصبح من المستحيل اجراء تعداد سكاني نزيه وشفاف ، مثل هذه الأوضاع يعني التعداد قد يستخدم لتأكيد النفوذ السياسي المليشيات أو تثبيت الواقع الديموغرافي الذي يخدم مصالحها ، مما يجعل العملية غير موثوقة ولا تعكس الواقع الحقيقي للسكان .
وأخيراً أن اجراء تعداد سكاني في ظروف غير مستقرة وغير آمنة يشكل تحدياً كبيراً ، حيث تتداخل عوامل الفساد والتهجير والاحتلال وعناصره وغياب الدولة تلعب دوراً في التأثير على نزاهة العملية ، في مثل هذه الظروف لا يمكن ضمان دقة وموثوقية البيانات التي يتم جمعها ، وعليه فإن اجراء التعداد السكاني في هذه الظروف يحتاج إلى مراجعة دقيقة وربما انتظار الاستقرار السياسي والاقتصادي قبل الشروع فيه لضمان ان النتائج تكون فعلاً مفيدة وعادلة لجميع فئات المجتمع ..