يحيى جاسم محمد الجبوري/ كربلاء
في مشهدٍ بات مألوفاً ومحزناً في آنٍ واحد، تنتشر في الأزقة ومراكز المدن حالات كثيرة من المجانين أو المصابين باضطرابات نفسية شديدة، يتجولون بين الناس كأشباح صامتة تائهة، لا يملكون مأوى يؤويهم ولا يداً تمتدّ إليهم بالرعاية أو الرحمة، وجوههم شاحبة، ملابسهم ممزقة، نظراتهم غائمة، وأصواتهم غالباً ما تكون صرخات بلا معنى أو همسات متقطعة لا يسمعها سواهم، يمر الناس بجانبهم كما لو أنهم لا يرونهم، اعتادوا وجودهم حتى أصبحوا جزءاً من تفاصيل المدينة اليومية، مشاهدهم لا تُثير في الغالب إلا نظرة استغراب عابرة أو ابتسامة مشوهة، مع أنّ كلّ واحد منهم يحمل في داخله قصةً من وجع، بعضها يبدأ بانهيار نفسي مفاجئ، وبعضها الآخر بسبب الإدمان أو الصدمة أو الإهمال الطويل، وبالرغم من ما تكشفه هذه الظاهرة من خلل في الصحة النفسية، إلا أنّها تُشير أيضاً إلى غياب الضمير المجتمعي الذي لم يَعُد ينزعج من رؤية إنسان يفترش الأرض ويلتحف السماء ويتحدث مع ظلاله وكأنّنا نعيش في مدينة فقدت حسّها الإنساني تدريجياً، وقد وثّقتْ بعض وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع مرعبة ومؤثرة لأشخاص يهيمون في الشوارع وهم في حالة لا وعي، أحدهم يصرخ في منتصف الطريق وآخر يتحدث إلى لا أحد، وثالث يضحك ويبكي في اللحظة نفسها، والناس يمرون بقربهم وكأنّهم لا يسمعون ولا يشعرون، هذا الإهمال لم يأتِ من فراغ ، بل هو نتيجة تراكمات طويلة من غياب الخطط الوقائية وضعف الرعاية النفسية ونقص المؤسسات المختصة، فهؤلاء لا يحتاجون إلى الشفقة العابرة ، بل إلى مراكز رعاية وإيواء وتأهيل تُعيد لهم إنسانيتهم وتحفظ لهم ما تبقى من كرامة، فالعقل ليس نعمةً مضمونة لأحد، ومَنْ كان سليماً اليوم قد ينهار غداً، والمجتمع الذي لا يحمي أضعف حلقاته هو مجتمع مهدد بالتفكك من الداخل، إنّ استمرار هذا المشهد من دون تدخّل حقيقي يُنذر بكارثة صامتة، ويدعونا جميعاً إلى وقفة جادة أمام هذا الجنون الذي يتجول بيننا بينما يلفّ الصمت ضمائرنا.