معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1853

الكتلة النقدية والمعروض السلعي (( خلل في توازن الاقتصاد العالمي يقود إلى التضخم والفوضى )) ..

حجم الخط

أ. د. محمد طاقة

تُعد نظرية العرض والطلب من الركائز الأساسية التي بُنيت عليها النظرية الاقتصادية الحديثة ، فهي القاعدة التي من خلالها يتحدد سعر السلعة أو الخدمة في السوق ، وتُبنى عليها بقية المفاهيم الاقتصادية مثل (( التوازن ، التضخم ، الكساد ، وغيرها )) .

في قلب هذه النظرية ، يكمن السوق باعتباره نقطة التقاء البائع بالمشتري . ومن خلال التفاعل ، يتحدد ليس فقط السعر ، وانما ايضاً كمية السلع والخدمات التي تنتج وتستهلك ، ولهذه النظرية دور محوري في تفسير حركة السوق وتحديد الاسعار والكميات المتداولة من سلع وخدمات ، ومع تطور الأسواق وتوسع النشاط المالي والنقدي في العصر الحديث ، باتت العلاقة بين الكتلة النقدية والمعروض السلعي محط اهتمام متزايد ، خصوصاً في ظل التضخم النقدي العالمي والانفصال المتسارع بين الاقتصاد النقدي والاقتصاد الحقيقي ، تهدف هذه المقالة إلى تحليل هذا الخلل البنيوي في الاقتصاد العالمي المعاصر ، انطلاقاً من قوانين العرض والطلب ، مع إلقاء الضوء على التحديات التي تفرضها الفجوة بين النقد المتداول والإنتاج الفعلي .

عند النظر في آلية عمل السوق ، نجد ان هناك قوتين تتحكمان به هما : الطلب والعرض ، فالطلب يمثل ما يرغب المشترون في اقتنائه من سلع وخدمات ، بشرط توفر المال الكافي لديهم .

اما العرض فهو ما يعرضه المنتجون من سلع وخدمات للبيع في السوق .

وتقوم النظرية على مبدأ بسيط لكنه فعال :

إذا ارتفع سعر السلعة يقل الطلب عليها واذا انخفض سعرها ، يزداد الطلب عليها ، وهذا ما يسمى بقانون الطلب الذي يفترض وجود علاقة عكسية بين السعر والكمية المطلوبة .

اما قانون العرض فيفترض العكس تماماً ، اي كلما زاد السعر زاد حافز المنتجين لتقديم كميات اكبر من السلعة والعكس صحيح .

لكن هذا التوازن البسيط تغير كثيراً في واقع الاقتصاد العالمي المعاصر ، اذ لم يعد ما يحدد السعر هو العرض والطلب الحقيقيان بل اصبح هناك تدخل مباشر من العوامل المالية والنقدية ، والتي أفرزت ما يمكن تسميته (( اختلالات في العلاقة الجوهرية بين المال والسلع )) .

مع العولمة وانتشار الانترنيت وتطور الاتصالات ، اصبح مفهوم السوق شاملاً لكافة أنحاء العالم (( سوق النفط ، والحبوب ، والمعادن ، والأسهم ، والعملات الرقمية )) تباع وتشترى لحظياً عبر الاسواق العالمية .

هذا الاتساع لم يكن ليحدث لولا تطور النظام النقدي والمالي ، خاصة بعد فك ارتباط الدولار بالذهب عام 1971 ، والذي سمح بطباعة النقود دون غطاء حقيقي .

من هنا ، بدأت النقود تأخذ بعداً جديداً ، حيث لم تعد فقط وسيلة لتبادل السلع والخدمات ، بل اصبحت نفسها سلعة يتم تداولها والمتاجرة بها في الأسواق المالية ، بل ويتم خلقها رقمياً على شكل ارصدة و ائتمان وقروض ومشتقات مالية لا يقابلها أي انتاج فعلي .

تشير التقديرات الحديثة إلى ان حجم الكتلة النقدية المتداولة في العالم قد بلغ مستويات هائلة ، ويمكن تقسيمها إلى :

⁃ النقود الفعلية ( الورقية والمعدنية ) وتقدر بحوالي (8-10 ) ترليون دولار أمريكي .

⁃ إذا أضفنا اليها الودائع الجارية في البنوك نصل إلى ما بين (50-60) ترليون دولار .

⁃ اما عند احتساب كافة أشكال الودائع الأجلة والأدوات المالية القابلة للتحويل ، فان الرقم يصل إلى ما بين (100-130) ترليون دولار أمريكي .

غير ان الأرقام لا تتوقف هنا ، فمع ظهور المشتقات المالية والتحويلات الاقتراضية والمضاربات الإلكترونية ، ارتفع حجم ما يمكن تسميته الطلب النقدي العالمي إلى اكثر من الف ترليون دولار اي (( كوادريليون )) هذا رقم ضخم جداً يعكس حجم السيولة والأموال المتداولة ، لكنها ليست اموالاً مرتبطة بإنتاج فعلي ، بل بادوات مالية اقتراضية ومضاربات .

في المقابل يبلغ الناتج المحلي الاجمالي العالمي ، وهو ما ينتج فعلياً من سلع وخدمات خلال سنة واحدة ، حوالي (105 -110) ترليون دولار فقط ، ((بحسب بيانات صندوق النقد الدولي لعام 2024)) .

وهنا يظهر الخلل بوضوح : لدينا كتلة نقدية ( الطلب ) تفوق بعشرة اضعاف حجم ما ينتج من سلع وخدمات ( العرض ) وهذا يعني ان هناك طلباً نقدياً هائلاً يطارد كمية محدودة من السلع والخدمات ، ما يؤدي حتماً إلى ارتفاع الاسعار أي التضخم .

تعود اسباب هذا الاختلال بين الكتلة النقدية والمعروض السلعي إلى عدة عوامل متداخلة :

⁃ البنوك المركزية الكبرى مثل الاحتياطي الفدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوربي ، اتّبعت منذ الأزمة المالية العالمية سنة (2008)سياسة التيسير الكمي أي ضخ الاموال في الأسواق عبر طباعة النقود لشراء السندات والأصول المالية .

⁃ الاعتماد على الاقتصاد الورقي اكثر من الاقتصاد الانتاجي ، أي الاعتماد على المضاربات والأوراق المالية بدلاً من الصناعات والزراعة والخدمات الفعلية

⁃ الفائدة المنخفضة والقروض الميسرة شجعت على الاستدانة والاستهلاك ، دون ان تقابلها زيادة في الانتاج الحقيقي .

من جهة اخرى ساهمت الأزمات العالمية مثل جائحة كورونا، والحروب التجارية ، والعقوبات وتعطل سلاسل التوريد في تقليص المعروض السلعي العالمي ، ورفع تكاليف الانتاج .

هذا التباعد المتزايد بين النقد والسلعة انتج عدة ظواهر اقتصادية سلبية :

⁃ التضخم العالمي الذي طال معظم السلع والخدمات حتى الأساسية منها .

⁃ انخفاض القدرة الشرائية للأسر والفئات الضعيفة ، مما أدى إلى تراجع مستويات المعيشة .

⁃ اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء .

⁃ أزمات دورية في الأسواق المالية كما حدث في ازمة (2008) وربما يحدث لاحقاً .

⁃ انفصال الاقتصاد النقدي عن الاقتصاد الحقيقي ، مما جعل الاقتصاد العالمي هشاً وقابلاً للانفجار في اي لحظة .

ان الفجوة الخطيرة بين الكتلة النقدية المتضخمة والمعروض السلعي الحقيقي تهدد استقرار الاقتصاد العالمي على المدى البعيد ، فبدلاً من ان تكون النقود أداة لخدمة الانتاج ، اصبحت سلعة مستقلة تباع وتشترى وتُضارب بها ، مما أدى إلى انفصال بين القيم الحقيقية والقيم المالية . ولمعالجة هذه الإشكالية لا بد من :

⁃ اعادة ضبط السياسات النقدية والتوقف عن طباعة الاموال دون غطاء إنتاجي .

⁃ التركيز على الاقتصاد الحقيقي من خلال دعم الانتاج الصناعي والزراعي والخدمي .

⁃ تقنين الأدوات المالية المعقدة التي تستخدم في المضاربة .

⁃ الحد من سيطرة المؤسسات المالية الكبرى التي باتت تتحكم في مصير الاقتصادات .

ان الوقت حان لاعادة الاعتبار للعلاقة الطبيعية بين المال والسلعة ، بين القيمة النقدية والقيمة الحقيقية وبين الاقتصاد الرقمي والاقتصاد المنتج ، حفاظاً على استقرار العالم ، وتفادياً لانفجارات اقتصادية متكررة تهدد مستقبل البشرية ..

عمان

في 1/7/2025

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *