أ. د. محمد طاقة
تُعد نظرية العرض والطلب من الركائز الأساسية التي بُنيت عليها النظرية الاقتصادية الحديثة ، فهي القاعدة التي من خلالها يتحدد سعر السلعة أو الخدمة في السوق ، وتُبنى عليها بقية المفاهيم الاقتصادية مثل (( التوازن ، التضخم ، الكساد ، وغيرها )) .
في قلب هذه النظرية ، يكمن السوق باعتباره نقطة التقاء البائع بالمشتري . ومن خلال التفاعل ، يتحدد ليس فقط السعر ، وانما ايضاً كمية السلع والخدمات التي تنتج وتستهلك ، ولهذه النظرية دور محوري في تفسير حركة السوق وتحديد الاسعار والكميات المتداولة من سلع وخدمات ، ومع تطور الأسواق وتوسع النشاط المالي والنقدي في العصر الحديث ، باتت العلاقة بين الكتلة النقدية والمعروض السلعي محط اهتمام متزايد ، خصوصاً في ظل التضخم النقدي العالمي والانفصال المتسارع بين الاقتصاد النقدي والاقتصاد الحقيقي ، تهدف هذه المقالة إلى تحليل هذا الخلل البنيوي في الاقتصاد العالمي المعاصر ، انطلاقاً من قوانين العرض والطلب ، مع إلقاء الضوء على التحديات التي تفرضها الفجوة بين النقد المتداول والإنتاج الفعلي .
عند النظر في آلية عمل السوق ، نجد ان هناك قوتين تتحكمان به هما : الطلب والعرض ، فالطلب يمثل ما يرغب المشترون في اقتنائه من سلع وخدمات ، بشرط توفر المال الكافي لديهم .
اما العرض فهو ما يعرضه المنتجون من سلع وخدمات للبيع في السوق .
وتقوم النظرية على مبدأ بسيط لكنه فعال :
إذا ارتفع سعر السلعة يقل الطلب عليها واذا انخفض سعرها ، يزداد الطلب عليها ، وهذا ما يسمى بقانون الطلب الذي يفترض وجود علاقة عكسية بين السعر والكمية المطلوبة .
اما قانون العرض فيفترض العكس تماماً ، اي كلما زاد السعر زاد حافز المنتجين لتقديم كميات اكبر من السلعة والعكس صحيح .
لكن هذا التوازن البسيط تغير كثيراً في واقع الاقتصاد العالمي المعاصر ، اذ لم يعد ما يحدد السعر هو العرض والطلب الحقيقيان بل اصبح هناك تدخل مباشر من العوامل المالية والنقدية ، والتي أفرزت ما يمكن تسميته (( اختلالات في العلاقة الجوهرية بين المال والسلع )) .
مع العولمة وانتشار الانترنيت وتطور الاتصالات ، اصبح مفهوم السوق شاملاً لكافة أنحاء العالم (( سوق النفط ، والحبوب ، والمعادن ، والأسهم ، والعملات الرقمية )) تباع وتشترى لحظياً عبر الاسواق العالمية .
هذا الاتساع لم يكن ليحدث لولا تطور النظام النقدي والمالي ، خاصة بعد فك ارتباط الدولار بالذهب عام 1971 ، والذي سمح بطباعة النقود دون غطاء حقيقي .
من هنا ، بدأت النقود تأخذ بعداً جديداً ، حيث لم تعد فقط وسيلة لتبادل السلع والخدمات ، بل اصبحت نفسها سلعة يتم تداولها والمتاجرة بها في الأسواق المالية ، بل ويتم خلقها رقمياً على شكل ارصدة و ائتمان وقروض ومشتقات مالية لا يقابلها أي انتاج فعلي .
تشير التقديرات الحديثة إلى ان حجم الكتلة النقدية المتداولة في العالم قد بلغ مستويات هائلة ، ويمكن تقسيمها إلى :
⁃ النقود الفعلية ( الورقية والمعدنية ) وتقدر بحوالي (8-10 ) ترليون دولار أمريكي .
⁃ إذا أضفنا اليها الودائع الجارية في البنوك نصل إلى ما بين (50-60) ترليون دولار .
⁃ اما عند احتساب كافة أشكال الودائع الأجلة والأدوات المالية القابلة للتحويل ، فان الرقم يصل إلى ما بين (100-130) ترليون دولار أمريكي .
غير ان الأرقام لا تتوقف هنا ، فمع ظهور المشتقات المالية والتحويلات الاقتراضية والمضاربات الإلكترونية ، ارتفع حجم ما يمكن تسميته الطلب النقدي العالمي إلى اكثر من الف ترليون دولار اي (( كوادريليون )) هذا رقم ضخم جداً يعكس حجم السيولة والأموال المتداولة ، لكنها ليست اموالاً مرتبطة بإنتاج فعلي ، بل بادوات مالية اقتراضية ومضاربات .
في المقابل يبلغ الناتج المحلي الاجمالي العالمي ، وهو ما ينتج فعلياً من سلع وخدمات خلال سنة واحدة ، حوالي (105 -110) ترليون دولار فقط ، ((بحسب بيانات صندوق النقد الدولي لعام 2024)) .
وهنا يظهر الخلل بوضوح : لدينا كتلة نقدية ( الطلب ) تفوق بعشرة اضعاف حجم ما ينتج من سلع وخدمات ( العرض ) وهذا يعني ان هناك طلباً نقدياً هائلاً يطارد كمية محدودة من السلع والخدمات ، ما يؤدي حتماً إلى ارتفاع الاسعار أي التضخم .
تعود اسباب هذا الاختلال بين الكتلة النقدية والمعروض السلعي إلى عدة عوامل متداخلة :
⁃ البنوك المركزية الكبرى مثل الاحتياطي الفدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوربي ، اتّبعت منذ الأزمة المالية العالمية سنة (2008)سياسة التيسير الكمي أي ضخ الاموال في الأسواق عبر طباعة النقود لشراء السندات والأصول المالية .
⁃ الاعتماد على الاقتصاد الورقي اكثر من الاقتصاد الانتاجي ، أي الاعتماد على المضاربات والأوراق المالية بدلاً من الصناعات والزراعة والخدمات الفعلية
⁃ الفائدة المنخفضة والقروض الميسرة شجعت على الاستدانة والاستهلاك ، دون ان تقابلها زيادة في الانتاج الحقيقي .
من جهة اخرى ساهمت الأزمات العالمية مثل جائحة كورونا، والحروب التجارية ، والعقوبات وتعطل سلاسل التوريد في تقليص المعروض السلعي العالمي ، ورفع تكاليف الانتاج .
هذا التباعد المتزايد بين النقد والسلعة انتج عدة ظواهر اقتصادية سلبية :
⁃ التضخم العالمي الذي طال معظم السلع والخدمات حتى الأساسية منها .
⁃ انخفاض القدرة الشرائية للأسر والفئات الضعيفة ، مما أدى إلى تراجع مستويات المعيشة .
⁃ اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء .
⁃ أزمات دورية في الأسواق المالية كما حدث في ازمة (2008) وربما يحدث لاحقاً .
⁃ انفصال الاقتصاد النقدي عن الاقتصاد الحقيقي ، مما جعل الاقتصاد العالمي هشاً وقابلاً للانفجار في اي لحظة .
ان الفجوة الخطيرة بين الكتلة النقدية المتضخمة والمعروض السلعي الحقيقي تهدد استقرار الاقتصاد العالمي على المدى البعيد ، فبدلاً من ان تكون النقود أداة لخدمة الانتاج ، اصبحت سلعة مستقلة تباع وتشترى وتُضارب بها ، مما أدى إلى انفصال بين القيم الحقيقية والقيم المالية . ولمعالجة هذه الإشكالية لا بد من :
⁃ اعادة ضبط السياسات النقدية والتوقف عن طباعة الاموال دون غطاء إنتاجي .
⁃ التركيز على الاقتصاد الحقيقي من خلال دعم الانتاج الصناعي والزراعي والخدمي .
⁃ تقنين الأدوات المالية المعقدة التي تستخدم في المضاربة .
⁃ الحد من سيطرة المؤسسات المالية الكبرى التي باتت تتحكم في مصير الاقتصادات .
ان الوقت حان لاعادة الاعتبار للعلاقة الطبيعية بين المال والسلعة ، بين القيمة النقدية والقيمة الحقيقية وبين الاقتصاد الرقمي والاقتصاد المنتج ، حفاظاً على استقرار العالم ، وتفادياً لانفجارات اقتصادية متكررة تهدد مستقبل البشرية ..
عمان
في 1/7/2025