أ. د. محمد طاقة
في الاول من حزيران عام (1972) ، خطا العراق خطوة سيادية غير مسبوقة في تاريخه
الحديث عندما قام بتأميم ثروته النفطية، وطرد الشركات الاجنبية ، وعلى رأسها شركات النفط الاحتكارية الكبرى المعروفة ب (( الشقيقات السبعة )) لم يكن هذا القرار ، اقتصادياً فحسب ، بل كان تحدياً مباشراً للنظام الرأسمالي العالمي الذي اعتاد على استنزاف ثروات الشعوب ، خصوصاً في دول الجنوب . وقد ترتب على هذا القرار دخول العراق في مواجه مفتوحة مع القوى الاستعمارية التقليدية التي رأت في هذا الفعل تهديداً مباشراً لمصالحها الجيوسياسية والاقتصادية .
لم يكن تأميم النفط حدثاً معزولاً ، بل جاء ضمن مشروع وطني شامل لبناء اقتصاد مستقل وتنمية شاملة . العراق ما بعد التأميم
شهد قفزات تنموية نوعية حيث ارتفعت مداخيله النفطية من اقل من مليار دولار سنوياً مطلع السبعينات إلى اكثر من (26)مليار دولار في مطلع الثمانينات . وتوجهت هذه الأموال إلى قطاعات الزراعة والصناعة والتعليم والبنية التحتية ، وشهدت البلاد بناء شبكة طرق وسكك حديدية ومصانع كبرى ومشاريع إسكانيّة وصحية وتعليمية .
وبسبب هذا التمرد السيادي ، وقيادة العراق النشطة في منظمة أوبك ووقوفه مع رفع اسعار النفط ، تحول العراق إلى هدف استراتيجي لما يُعرف ب(( الحكم العالمي العميق))، اي التكتلات الرأسمالية التي تتحكم في القرار الدولي والمتحالفة مع الصهيونية العالمية وشركات النفط الكبرى مثل (( إكسون موبيل ، وشيفرون ، وبي بي ، وتوتال )) .
منذ لحظة التأميم ، وضع العراق تحت المجهر ، وبدأت محاولات اسقاط النظام الوطني بكل الوسائل، ولكن يقظة القيادة العراقية ، ووجود التوازن الدولي حينها بوجود الاتحاد السوفيتي حال دون تمرير هذه المؤامرات ، خاصة ان موسكو كانت حليفاً استراتيجياً لبغداد في تلك المرحلة .
إلا ان انهيار الاتحاد السوفيتي عام (1991) أخل بهذا التوازن ، فباتت الولايات المتحدة الأمريكية القطب الاوحد ، واستعادت مشاريعها القديمة لاعادة السيطرة على العراق وثرواته ، ففكرت بدايةً في استخدام ايران كاداة ، حيث طلبت من شاه ايران آنذاك الضغط على العراق ، لكنه رفض ، فقامت المخابرات الغربية بإسقاطه عام (1979) وجاءت بالخميني من منفاه في باريس على متن طائرة فرنسية بحماية أمريكية ،
وسلمته الحكم على أمل ان يلعب الدور المطلوب في زعزعة الاستقرار في العراق . أشتعلت الحرب بين العراق وايران عام (1980) واستمرت حتى عام (1988) ، وكان هدفها الرئيسي من طرف ايران هو اسقاط النظام الوطني في العراق ، لكن وبرغم كل ما قدمته أمريكا والغرب لايران من دعم غير مباشر ، خرج العراق منتصراً من الحرب ، وأفشل مشروع تصدير الثورة الإيرانية إلى العراق والمنطقة .
بعد الحرب استمرّت المؤامرات ، لكن دون جدوى ، فاضطرت أمريكا ، بعد فشل كل الأدوات ، إلى استخدام ذريعة احداث الكويت في عام (1990) كمسوغ دولي لضرب العراق وإخضاعه ، ففرضت عليه حصاراً شاملاً دام (13) عاماً ، أدى إلى وفاة ما لا يقل عن نصف مليون طفل وامرأة وشيخ عراقي بسبب نقص الغذاء والدواء وفق تقارير الامم المتحدة . مع ذلك تمكنت قيادة العراق الصمود بوجه جميع المؤامرات وإفشالها .
اخيراً جاء الغزو الأمريكي البريطاني للعراق عام ( 2003)، بذريعة امتلاك أسلحة دمار شامل ، وهي الذريعة التي ثبت كذبها لاحقاً ، وكشفت تقارير لاحقة ، منها تقرير (( تشيلكوت)) البريطاني عام (2016) ، ان الغزو لم يكن شرعياً ، وتم بناءً على اكاذيب ومعلومات استخبارية مفبركة .
شنّ التحالف الدولي عدواناً شاملاً دمّر خلاله ، البنية التحتية بالكامل (( كهرباء، ماء، طرق، جسور ))، وتم تدمير القطاع الصناعي برمته وسرقة كل ما تبقى من عُدد ومعدات وآلات ومكائن ، حيث توقف العمل باكثر من (13) الف مصنع ومعمل ومؤسسة إنتاجية في عموم العراق وهي تمثل معامل انتاج كبيرة ومصانع صغيرة وكذلك الصناعات التقليدية تعطلت بسبب انقطاع التيار الكهربائي والأوضاع الامنية المتردية .
وتم تدمير الوزارات والمكتبات والكليات والجامعات والمتحف الوطني وسرقة محتوياته ونهب البنك المركزي وسرقة مليارات الدولارات وأطنان من الذهب . كما قام الغزاة بتفكيك الجيش العراقي ومؤسسات الدولة بقرار من ( بول بريمر) الحاكم المدني الأمريكي للعراق .
تم تسليم العراق إلى الاحزاب المرتبطة بايران ، والتي لعبت الدور الأخطر في تكريس الطائفية السياسية ، الفساد المالي ، وانهيار القضاء ، وتدمير التعليم والصحة، وتحويل العراق إلى حديقة خلفية لمصالح طهران وأجندتها .
على الرغم من العداء الظاهري بين امريكا وايران ، فإن الدور الإيراني في العراق يخدم تماماً المشروع الأمريكي ، بل ويكمله من خلال تكريس الهوية الطائفية وتدمير الهوية الوطنية ، نهب ثروات العراق علناً حيث قدرت بعض التقارير ان خسارة العراق خلال السنوات (2003-2023) قد تتجاوز عدة ترليونات من الدولارات إذا ما احتسبت الموارد ، والفرص الضائعة، الخسائر، والدمار الشامل . وهذا الدور يشمل ايضاً سيطرة المليشيات المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني على القرار السياسي والأمني في العراق .
وكذلك تقويض فرص التنمية وتكريس الجهل والتخلف واصبح من الواضح ان ما جرى ويجري في العراق لم يكن نتيجة اخطاء داخلية فقط ، بل نتيجة مشروع ممنهج شاركت فيه كل من أمريكا (( التخطيط ، الغزو ،التدمير ، التفكيك ، الحصار ، الاحتلال ،وتسليم البلاد إلى إيران )) ..وإسرائيل الحليف الدائم لمشاريع تفتيت الدول العربية، وكان لها دور استخباراتي ولوجستي في الحرب على العراق .
وايران الأداة التنفيذية الأبرز لتكريس الخراب والانقسام الطائفي والسياسي والاقتصادي . ان ما قامت به ايران من تدمير سياسي واقتصادي واجتماعي بالإضافة إلى الفساد المالي والإداري والاخلاقي وتدمير المنظومة القيمية والاجتماعية كان كل ذلك بعلم الولايات المتحدة الأمريكية وبدعمها وموافقتها وهي التي تتحمل المسؤولية التاريخية لما جرى ويجري لحد الان في العراق .
وفق تقديراتنا فإن مجموع الخسائر البشرية والمادية والمعنوية التي لحقت بالعراق بسبب الحصار ثم الغزو ثم الاحتلال الايراني – الأمريكي تفوق عشرة ترليونات موزعة كما ياتي تقريباً :
الخسائر البشرية والإنسانية (2) ترليون دولار
النفط والغاز المنهوب (3) ترليون دولار
الفساد ونهب المال العام (3) ترليون دولار
الخسائر التعليمية والصحية والاجتماعية (2) ترليون دولار
وعليه فإن من حق العراق ، عندما يستعيد قراره الوطني ان يطالب بمحاكمة كل من ساهم وشارك ودعم الغزو والاحتلال ويطالب بتعويض شامل من الولايات المتحدة الأمريكية وايران وإسرائيل. واستعادة الاموال المسروقة ومحاكمة السياسيين الفاسدين واعادة بناء ما دمر بتمويل من المعتدين . فمن المسؤل عن كل ما حدث ويحدث في العراق والمنطقة ؟ ولايمكن ان يُطرح دون فهم السياق العالمي الذي اسقط فيه العراق ،
فالمسؤولية لاتقع فقط على الأدوات المحلية ، بل على من (( خطط ومول ونفذ المشروع)).
ان العدالة لا تتحقق إلا بمحاسبة الفاعلين الأصليين ، واستعادة العراق لسيادته وثروته وهويته ، فلا سلام حقيقي دون عدالة ولا عدالة دون مساءلة.
عمان في 25/7/2025