معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1853

العائلة والمجتمع — العراق نموذجاً 

حجم الخط

أ. د. محمد طاقة

تُعد العائلة اللبنة الاولى والأساسية في بناء اي مجتمع ، فهي الخلية التي تحدد قوة المجتمع أو ضعفه وتماسكه أو تفككه . واذا كانت العائلة متماسكة وقائمة على القيم الاخلاقية والدينية المعتدلة ، والعادات والتقاليد الراسخة ، فان المجتمع برمته سيكون صحياً ومعافى ومنتجاً . أما إذا تفككت العائلة فإن المجتمع سيفقد توازنه ويدخل في دوامة من الانهيار .

في العراق ، وبعد الغزو الأمريكي البريطاني عام (2003) وما تبعه من تدخل إيراني وصهيوني مباشر وغير مباشر ، كان استهداف العائلة العراقية من اخطر مظاهر التدمير الاجتماعي ، اذ شكل ذلك مدخلاً لتفكيك البنية الوطنية واضعاف المجتمع ككل .

العائلة كخلية اجتماعية ، تشبه الخلية السليمة في جسم الإنسان إذا كانت الخلية صحيحة ، ظل الجسم معافى ، واذا مرضت انتشر المرض في الجسد كله ، فهي التي تزرع في الفرد منذ طفولته القيم الأساسية ( الصدق ، احترام الوقت ، الانضباط ، حب الوطن ، بر الوالدين ) ، ونبذ السلوكيات المنحرفة مثل ( الكذب ، والسرقة ، وعمل الفاحشة وغيرها ) ، كما تشكل العائلة الحصن الاول ضد الغزو الفكري والديني المشوه والمستورد من الخارج .

لا يقتصر دور التربية على العائلة فحسب ، بل يتكامل مع المدرسة والجامعة والإعلام ( صحافة ، تلفزيون ، إذاعة ، وسائل رقمية )

ومؤسسات المجتمع المدني . لكن هذا التكامل مرهون بمدى التزام الدولة نفسها بالقيم الاخلاقية والاجتماعية . فعندما تكون السلطة فاسدة ، فإنها تساهم في نشر الفساد داخل المجتمع بدلاً من محاربته .

بعد الغزو ، لم يكن الهدف العسكري والسياسي فقط ، بل جرى عمل ممنهج لضرب النسيج الاجتماعي ، فقد ركز المحتلون وحلفاؤهم على تفكيك الطبقة الوسطى وهي الأكثر تعليماً وثقافةً وتمسكاً بالقيم .

تشير تقارير الامم المتحدة إلى ان العراق فقد بعد عام (2003) اكثر من (40‎%‎ ) من كفاءاته العلمية والأكاديمية بسبب الاغتيالات أو الهجرة القسرية وهو ما انعكس مباشرة على انهيار المنظومة التعليمية والاخلاقية ، كما ساهم الاحتلال في تسليم السلطة إلى طبقات اجتماعية مهمشة وفاسدة ، كثير من أفرادها كانوا خارج العراق او منخرطين في شبكات الجريمة ، ليعملوا على اعادة انتاج الفوضى ، النتيجة كانت انهيار منظومة الأسرة . الطلاق ارتفع بنسبة (70‎%‎) بين عامي (2003 – 2015 ) ، وانتشرت ظواهر اجتماعية غريبة مثل المخدرات التي لم يعرفها العراق قبل الاحتلال إلا بشكل محدود جداً .

من اخطر نتائج ضرب العائلة العراقية انتشار الطائفية والعنصرية والعشائرية ، بوصفها بديلاً عن الهوية الوطنية الجامعة ، وهنا يلاحظ ان نسبة الامية التي كانت لا تتجاوز (8‎%‎) قبل (2003)قفزت لتتجاوز (20‎%‎) بعد عام (2010 ) ، حسب إحصاءات وزارة التخطيط , كما تحولت بغداد والبصرة ومدن الجنوب إلى أسواق مفتوحة للمخدرات القادمة عبر ايران ، حتى اصبح العراق يصنف من قبل تقارير الامم المتحدة لعام (2022) كدولة عبور واستهلاك للمخدرات .

هذه الظواهر أضعفت العائلة العراقية وفككتها ، فاصبح الشباب أسير المخدرات والبطالة والفقر ، بينما تفككت الأسر نتيجة النزوح الداخلي والحروب والارهاب والفساد الحكومي .

ان استهداف العائلة العراقية لم يكن عارضاً ، بل مشروعاً مدروساً لاعادة المجتمع العراقي إلى ما يشبه ( عصر الظلمات) ، فالاحتلال لم يكتفِ بتدمير البنى التحتية للدولة ونهب النفط والغاز ، بل سعى ايضاً إلى تدمير البنية التحتية للمجتمع نفسه …. العائلة .

وعليه فإن المسؤولية تقع على عاتق العراقيين ، خصوصاً في المهجر للتمسك بعائلاتهم وقيمهم الأصيلة ، وتربية أبنائهم على تلك الاخلاقيات الراسخة ، فالعائلة المتماسكة هي الضمانة الوحيدة لعودة المجتمع العراقي إلى قوته وقدرته على مواجهة الفساد والمحتلين وعملائهم .

ان اعادة بناء العراق يبدأ من اعادة بناء العائلة العراقية .

الكويت

20/9/2025

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *