أ. د. محمد طاقة
برزت الشركات متعددة الجنسيات في العقود الأخيرة كقوى اقتصادية جبّارة عابرة للحدود، تجاوزت في تأثيرها دور العديد من الحكومات الوطنية . فهي لا تُعد كيانات اقتصادية كبرى فحسب، بل تحولت إلى ادوات فعالة في يد النظام الرأسمالي العالمي الجديد لفرض الهيمنة والسيطرة، وفرض اجندات خفية تتجاوز النشاط التجاري إلى التأثير السياسي والاجتماعي وحتى الثقافي، في الدول التي تعمل فيها .
تمثل الشركات متعددة الجنسيات الجسر الحقيقي الذي عبرت من خلاله العولمة الاقتصادية إلى كل بقاع الارض . فهي تمتلك إمكانيات هائلة، مادية وبشرية وتقنية، وتمارس نشاطها في معظم دول العالم . هذه الشركات تسيطر فعلياً على الاقتصاد العالمي، خاصة اقتصاديات الدول النامية، عبر التحكم في الموارد الطبيعية والأسواق المحلية وحتى القرار السياسي .
لم تعد تلك الشركات مجرد ادوات انتاج او تجارة، بل اصبحت صاحبة قرار سياسي غير معلن في البلدان التي تعمل فيها . وتحولت إلى قوى محركة لمجمل التحولات الاقتصادية والاجتماعية بل والسياسية في العالم بأسره .
الشركات متعددة الجنسيات هي كيان اقتصادي يعمل في اكثر من دولة، ولكنها لا تنتمي فعلياً لاي دولة، رغم تسجيلها الرسمي في بلد ما . فهي تتحرك بمرونة تفوق الدول، وتمتلك إمكانيات مالية اضخم من موازنات بعض الدول مجتمعة.
وهذا ما يمنحها سلطة غير مسبوقة، فمن خلال الاستثمار والتوظيف والتكنولوجيا، دخلت هذه الشركات إلى عمق اقتصادات البلدان النامية، فتحكمت في مواردها ووجهت أولوياتها، بل وأثرت في قراراتها السياسية، تحت ذريعة جذب الاستثمارات او النمو الاقتصادي .
العولمة الاقتصادية التي رُوّج لها لعقود ماضية كمرحلة (( لتحرير السوق)) ونقل التكنولوجيا، كانت في حقيقتها تغليفاً ناعماً لمشروع السيطرة . وقد كانت الشركات الكبرى أداته الاولى، حيث مارست نفوذها من خلال الهيمنة على الأسواق،و لا تكتفي هذه الشركات بالهيمنة على الأسواق، بل تسعى إلى احتكارها، عبر قتل المنافسة وفرض الاسعار وإغراق السوق بمنتجاتها، وكذلك السيطرة على سلاسل الامداد، من خلال التحكم في عمليات الانتاج والنقل والتوزيع،لا يمكن لاي بلد الانفكاك عن منظومتها . وكذلك تمارس نفوذها في التأثير في السياسات عبر جماعات الضغط ((اللوبيات ))وتمويل الحملات الانتخابية وشراء الذمم اصبحت الشركات الكبرى جزءاً من صناعة القرار السياسي في كثير من الدول .
ومن اجل ادراك حجم هيمنة هذه الشركات دعونا نُمعن النظر في بعض الارقام
الجدول الآتي يبين القيمة السوقية لعدد من الشركات العملاقة :
ومن اجل المقارنة، فإن الناتج المحلي الاجمالي لدول كبرى مثل البرازيل وكوريا الجنوبية أو حتى روسيا، اقل من القيمة السوقية لهذه الشركات منفردة .
وهذا يكفينا النظر إلى بعض الأرقام لفهم مدى تغوّل هذه الشركات . كما ان اكبر عشر شركات عملاقة تجني من مبيعاتها عن كل دقيقة مليون دولار، والجدول الآتي يبين لنا أسماء الشركات العشرة وما تجنيه من مبيعاتها خلال الساعة الواحدة واليوم والشهر والسنة :
ملاحظة : حرف الميم يعني مليار دولار ومن دونه يعني مليون دولار .
هذه الأرقام تعكس لنا نفوذاً مطلقاً لايمكن تجاوزه، وهي تؤكد ان هذه الشركات اصبحت قادرة على شراء حكومات، والتأثير على الاعلام والتلاعب بالأسواق العالمية، بل حتى إشعال الحروب أو إخمادها،ونلاحظ من الجدول أعلاه ان شركة ميتا تجني من مبيعاتها خلال سنة واحدة ((369.3)) ترليون دولار وبحساب بسيط يعني انها تجني مليون دولار في كل تسع ثواني . وربّ من يسأل من يقف خلف هذه الشركات ؟
وراء هذه الشركات تقف قوى خفية، تتحكم بها و توجهها وفق مصالحها العليا، وأبرز هذه القوى هي العائلات المالية الكبرى، مثل عائلة روكفلر وعائلة روتشيلد، اللتان تُعدان من أعمدة ما يعرف بالحكومة العالمية الخفية، تتحالف هاتان العائلتان مع ثلاث عوائل أخرى لتشكيل شبكة تَحَكُم واسعة تدير الاقتصاد العالمي من خلف الستار .
والى جانب هذه العائلات تبرز شركات استثمارية عملاقة مثل (( بلاك روك)) التي تُعد اكبر مدير للأصول المالية في العالم وتمتلك حصصاً مؤثرة في معظم الشركات الكبرى، ومجموعة (( فانغارد)) التي تتحكم بمئات المليارات من الدولارات في مختلف الأسواق العالمية . هذه الكيانات، مع أدواتها المالية والإعلامية والتكنولوجية، تمارس اليوم استعباداً عصرياً لشعوب العالم، من خلال فرض نظام اقتصادي احتكاري يخدم مصالح الاقلية الثرية، بينما تهمل الأغلبية الساحقة من البشرية .
في ضوء كل ما تقدم، يمكن القول ان الشركات الكبرى لم تعد مؤسسات اقتصادية فحسب بل تحولت إلى ادوات للهيمنة والسيطرة على مقدرات العالم، انها جزء من منظومة أوليغارشية عالمية تعمل على احكام قبضتها على المال والإعلام والتكنولوجيا والسياسة، في سبيل اخضاع البشرية لمصالحها، واذا لم تواجه هذه المنظومة بمشاريع تحررية بديلة فإن العالم مقبل على مرحلة جديدة من الاستعباد المقنع لا تقل خطورة عن مراحل الاستعمار التقليدي تم الاعتماد في كتابة هذه المقالة على كتاب الأوليغارشية والعبودية المعاصرة احد كتبي التي صدرت اخيراً.
وان الجداول من عملي الشخصي.
عمان في 4/8/2025