معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1853

الانتخابات العراقية بين الوعي المغيب والتزوير الممنهج ..

حجم الخط

أ. د. محمد طاقة

كثيراً ما يختزل مفهوم الديمقراطية في صورة نمطية و مبسطة تتمثل في عملية الاقتراع ، حتى بات البعض يعتقد ان وضع ورقة في صندوق الانتخابات هو جوهر الديمقراطية وروحها .

هذا الفهم السطحي لا يعكس جوهر الديمقراطية الحقيقي ، والذي يتجاوز آليات التصويت إلى منظومة متكاملة من الوعي والحرية ، والمشاركة ، والمساواة في الحقوق والفرص .

العراق ومنذ عام (2003) ، يعيش تجربة مشوهة ومزيفة لما يسمى ((الانتقال الديمقراطي)) ، تحولت فيها الانتخابات إلى مهزلة سياسية تُكرس الهيمنة الخارجية وتُفرغ الديمقراطية من مضمونها .

ان الديمقراطية ليست مجرد اجراء شكلي يتمثل في الإدلاء بصوت انتخابي ، بل هي نمط حياة وسلوك إنساني يقوم على الوعي الشامل بحقوق الفرد وواجباته ، وعلى قدرة المواطن عل اتخاذ قراراته بحرية واستقلال ، فالديمقراطية تبدأ من صندوق العقل قبل ان تنتهي إلى صندوق الاقتراع ، وفي الحالة العراقية ، تم تغييب هذا الجوهر العميق لصالح صيغ سطحية أراد الاحتلال وحكوماته المتعاقبة فرضها بالقوة ، عبر ما يسمى ((ديمقراطية بوش)) ، وهي ديمقراطية مصممة خصيصاً لتناسب مصالح الاحتلال الامريكي – البريطاني لا لمصلحة الشعب العراقي .

لم يكن الاحتلال الامريكي للعراق في عام (2003) مجرد احتلال عسكري ، بل كان مشروعاً شاملاً لتغيير بنية الدولة والمجتمع وقد تمثل ذلك في صياغة دستور مفروض من الخارج ، بعيد عن تطلعات الشعب العراقي ، يكرّس الطائفية والعرقية والمحاصصة الدينية ، ويؤسس لشرذمة المجتمع وتفتيت نسيجه الوطني .

بدلاً من ارساء قواعد المشاركة السياسية العادلة ، تم إقصاء قوى وطنية رئيسية لعبت أدواراً تاريخية في بناء الدولة العراقية الحديثة ، ما مثل انتهاكاً صارخاً للديمقراطية وحقوق الانسان .

وبعد انسحاب القوات الأمريكية ، سلمت أمريكا مفاتيح العراق إلى إيران ، التي استكملت مخطط تفتيت الدولة ، مستغلة النفوذ الطائفي والمذهبي ، وبدعم من مرجعيات دينية وشخصيات ترتبط مباشرة بالمشروع الإيراني .

وبذلك تحول العراق إلى ساحة مفتوحة للفساد المالي والإداري وحتى الاخلاقي ، وتراجع التعليم والقطاع الصحي .

وتفاقم الفقر والبطالة ، فيما جرى (( تحليل )) نهب المال العام اي جعله حلالاً بغطاء ديني وسياسي منحرف .

في ظل التخلف المنتشر والطائفية المستشرية والفقر المدقع ، اصبح شراء الأصوات ممارسة شائعة في العملية الانتخابية ، حيث يتم استغلال حاجة الفقراء والمحتاجين لتوجيه اصواتهم نحو مرشحين لا يمثلون تطلعاتهم الحقيقية ، بل يكرسون ذات المنظومة الفاسدة التي ساهمت في إيصالهم إلى هذا الوضع البائس ، وهكذا اصبحت الانتخابات اداة لاعادة انتاج ذات الوجوه والأحزاب ، ضمن دائرة مغلقة من الزيف والتضليل .

ما جرى في العراق هو ترجمة عملية لما يسمى ب (( ديمقراطية بوش )) والتي لم تكن سوى نموذج خالي المضمون ، حوّل العراق إلى بلد يعيش في العصور الوسطى ، تحكمه قوى دينية ومذهبية متخلفة ومشبوهة تتلاعب بمشاعر الناس وتستخدم الدين كوسيلة للسيطرة لا وسيلة للتحرر .

في مجتمعات يغيب عنها الوعي والإدراك ، وتخضع لاوامر مرجعيات دينية ذات ارتباطات خارجية ، لا يمكن الحديث فيها عن ديمقراطية حقيقية .

فالأغلبية التي تشارك في الانتخابات في ظل هذا الواقع ، تكون موجهة لا حرة ، وتستخدم كاداة لشرعنة الفساد والاستبداد .

ان نتائج الانتخابات لا تُحسم في صناديق الانتخابات ، بل تحدد مسبقاً من قبل المليشيات والأحزاب الدينية المدعومة من ايران ، التي اصبحت اللاعب الرئيسي في رسم معالم العملية السياسية .

ان ما جرى ويجري في العراق ليس انتقالاً ديموقراطياً ، بل خديعة كبرى سُوّقت على انها تجربة ديموقراطية ، فالانتخابات في ظل الاحتلال وغياب السيادة ، وفي ظل دستور طائفي ونظام فاسد ومتهرئ ، لا يمكن إلا ان تكون مهزلة ، والمطلوب اليوم هو اعادة النظر جذرياً في العملية السياسية من اساسها ، واستعادة القرار الوطني ، وبناء ديمقراطية حقيقية تقوم على المواطنة الواعية لا الطائفية ، وعلى العقل لا على الصندوق وحده ..

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *