أ. د. محمد طاقة
الاخلاق هي مجموعة من المباديء والقيم التي تُميز السلوك الانساني وتحدد ما هو مقبول أو مرفوض في العلاقات بين الأفراد والمجتمعات وتشمل الاخلاق مفاهيم ، ((كالصدق ، والأمانة ، العدل ، الرحمة ، والإحسان وغيرها )) ، انها اساس الاحترام والتسامح والتكافل ، وغيرها من الصفات التي ترتقي بالسلوك الإنساني وتضبطه في اطار من المسؤولية والاحترام ، وتعد هذه من الركائز التي تبنى عليها الامم المتحضرة والمجتمعات الراسخة .
الاخلاق ليس ترفاً فكرياً ولا موضوعاً وعضياً فحسب ، بل هي ضرورة وجودية لبقاء المجتمعات ، وكلما علتْ اخلاق الناس زادت فرص نهوضهم وتقدمهم والعكس صحيح ، لذلك فإن الحفاظ على الاخلاق ونقلها للأجيال القادمة هو استثمار في بقاء الإنسانية ذاتها .
رغم تنوع الثقافات ، إلا ان هناك قيماً اخلاقية تكاد تكون مشتركة لدى جميع الشعوب مثل (( الصدق ، وعدم الغش ، واحترام الكبير ، وبر الوالدين ، وتقدير المرأة )) وغيرها من القيم التي يجمع العقل الإنساني السليم على انها من الفضائل .
وعلى النقيض فإن (( الكذب ، والخيانة ، والسرقة ، والظلم )) تُعد من الرذائل أينما وجد الإنسان .
تنشأ الاخلاق في المجتمعات من مزيج من الديانات والأعراف والتقاليد والتجارب التاريخية ، لذلك تختلف التفاصيل من مجتمع إلى آخر ، لكنها تجتمع في جوهرها على تعزيز التعايش والتعاون والاحترام المتبادل ، فالأخلاق تمثل انعكاساً لوعي المجتمع وهويته .
لا يمكن بناء مجتمع سليم دون قاعدة اخلاقية صلبة .
فالقانون وحده لا يكفي ما لم يدعم بمنظومة قيم تحفظ الضمير الجمعي وتضبط السلوك العام ، واذا ما تلاشت الاخلاق تفككت المجتمعات وانهارت الدول ، مهما بلغت من تطور مادي او امتلاك للثروات .
لا يمكن لاي مجتمع ان يستقر او يتطور دون وجود منظومة اخلاقية تحكم العلاقات بين الافراد .
فالأخلاق هي الضامن للاستقرار ، والركيزة التي تبنى عليها القوانين والنظم .
وحين تضعف الاخلاق ، ينتشر الفساد ، وتضيع الحقوق ، وتسود الفوضى ، مما يؤدي في النهاية إلى انهيار المجتمعات مهما كانت غنية او متقدمة تقنياً ، فالرقي المادي دون قيم اخلاقية يؤدي إلى الانهيار الداخلي والانحلال .
كان العراق قبل الغزو الأمريكي عام ( 2003 ) يتمتع بمنظومة قيمية واخلاقية متينة مستمدة من تنوعه الديني ، وعلى وجه الخصوص من القيم الإسلامية ، إلى جانب ارثه الحضاري وعاداته وتقاليده المتجذرة .
هذه المنظومة كانت تمثل قوة داخلية ساهمت في بناء الإنسان العراقي وصموده وتقدمه ، رغم كل التحديات والظروف الصعبة .
لكن الغزاة لم يكتفوا بتدمير البنية التحتية ، بل استهدفوا الإنسان ومنظومته القيمية بشكل منهجي ، فزرعوا الفساد المالي والإداري ، وعمقوا الطائفية ، ونشروا الفوضى الاخلاقية وفتحوا الأبواب امام كل ما يضعف المجتمع ويهينه ، حتى اصبح السلوك غير الاخلاقي في كثير من الاحيان هو القاعدة ، واصبح العراقي يعاني من تشتت قيمي خطير .
وكما قال الشاعر الكبير احمد شوقي :
(( انما الامم الاخلاق ما بقيت فإن هُمُ ذهبت اخلاقهم ذهبوا )) .
حقيقة عميقة اختصر فيها الشاعر ، تاريخ صعود وهبوط الامم ، فالأخلاق ليست مجرد سلوك فردي ، بل هي البنية التحتية التي تحافظ على كيان الامة .
فإذا تآكلت الاخلاق ، اصبحت الدولة كالجسد بلا روح ، تنهار من داخلها حتى وان كانت ظاهرياً قائمة ، وهذا ما نراه اليوم في كثير من المجتمعات التي تراجعت مكانتها بسبب فقدان القيم وسيادة الأنانية والجشع (( العراق مثلاً )) .
ان المجتمع العراقي اليوم يقف على حافة الهاوية لان اخلاقه التي كانت تمثل صمام امانه قد تم استهدافها بشكل مباشر .
لذا لم يعاد بناء هذه المنظومة الاخلاقية ، فان مصير المجتمع سيكون التلاشي والانهيار .
عبر التاريخ ، لم تنهض أمة إلا على اساس متين من القيم والاخلاق ، ولم تسقط أمة إلا بعد ان تآكلت منظومتها الاخلاقية ، فالأخلاق ليست ترفاً فكرياً ، بل هي الضامن للاستقرار والبوصلة التي تهدي الشعوب نحو البناء والتقدم .
وفي واقعنا العربي لا يوجد مثال اكثر وضوحاً وتجلياً لذلك من حالة العراق بعد غزوه عام ( 2003 ) .
منذ اكثر من عشرين عاماً ، وبالتحديد بعد الاحتلال الامريكي للعراق ، تمكنت ايران عبر اذرعها السياسية والمليشياوية من التغلغل داخل مفاصل الدولة العراقية ، ليس فقط لتوسيع نفوذها السياسي ، بل لتنفيذ مشروع اعمق وأكثر خطورة ، تدمير الاقتصاد العراقي وتفكيك المجتمع وتمزيق منظومته القيمية والاخلاقية .
فقد انهك الاقتصاد العراقي ونهبت ثرواته ، وزادت البطالة والفقر بشكل كارثي ، بينما يعيش الملايين تحت خط الفقر في بلد يمتلك ثاني اكبر احتياطي نفطي في العالم ، لم يكن الفساد مجرد نتيجة عشوائية ، بل كان اداة بيد منظومة سياسية وميليشياوية خاضعة لايران ، هدفها نشر الطائفية وإحياء العشائرية ، وتكريس الفوضى ، واضعاف الدولة المركزية ، حتى يتحول العراق إلى ساحة مفتوحة للنفوذ الإيراني .
والأخطر من كل ذلك ان هذه المليشيات لم تكتفِ بالهيمنة الامنية والاقتصادية ، بل استهدفت المنظومة القيمية والاخلاقية للشعب العراقي ، فشوهت المفاهيم الوطنية وأفرغت الدين من محتواه الروحي والانساني ، وروجت لثقافة العنف والانتهازية والفساد حتى باتت الاخلاق استثناء والخوف والفساد والسكوت هي القاعدة .
ولذلك فان إصلاح العراق لا يمكن ان يتم من داخل هذا النظام الفاسد الذي يحكم البلاد بالحديد والنار ، ويمنع اي محاولة حقيقية للتغيير .
ان استعادة العراق ، اخلاقياً وقيمياً واقتصادياً ، تبدأ من اسقاط هذه المنظومة العميلة والمليشياوية ، وبناء نظام وطني مستقل ، يعيد الكرامة للعراقيين ويستنهض قدراتهم لبناء وطن حر كريم .
ان معركة العراق الحقيقية لم تكن فقط على حقوقه النفطية ، بل على ضميره الجمعي وقيمه التي كانت يوماً ما مصدر فخره ، كون المعركة الأخطر ليست مع السلاح ، بل مع تدمير الاخلاق .
واذا ما أراد العراق النهوض من جديد ، فعليه ان يبدأمن الانسان ومن زرع القيم واستعادة ما فقد من فضائل ، لانه لايمكن ان نبني الأوطان بأجساد خاوية من القيم .
واذا أراد العراق ان ينهض من جديد ، فعليه ان يبدأ من الانسان ، من المدرسة ، من الأسرة ، من الاعلام ، وان يعيد بناء منظومة اخلاقية تعيد للمجتمع توازنه وللدولة مكانتها ، فبغير الاخلاق لا بناء ولا وحدة ولا مستقبل ..
عمان
13/4/2025