معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1853

الاخلاق اساس بقاء الامم ..  (( العراق نموذجاً لانهيار المنظومة القيمية بعد الغزو )) ..

حجم الخط

أ. د. محمد طاقة

الاخلاق هي مجموعة من المباديء والقيم التي تُميز السلوك الانساني وتحدد ما هو مقبول أو مرفوض في العلاقات بين الأفراد والمجتمعات وتشمل الاخلاق مفاهيم ، ((كالصدق ، والأمانة ، العدل ، الرحمة ، والإحسان وغيرها )) ، انها اساس الاحترام والتسامح والتكافل ، وغيرها من الصفات التي ترتقي بالسلوك الإنساني وتضبطه في اطار من المسؤولية والاحترام ، وتعد هذه من الركائز التي تبنى عليها الامم المتحضرة والمجتمعات الراسخة .

الاخلاق ليس ترفاً فكرياً ولا موضوعاً وعضياً فحسب ، بل هي ضرورة وجودية لبقاء المجتمعات ، وكلما علتْ اخلاق الناس زادت فرص نهوضهم وتقدمهم والعكس صحيح ، لذلك فإن الحفاظ على الاخلاق ونقلها للأجيال القادمة هو استثمار في بقاء الإنسانية ذاتها .

رغم تنوع الثقافات ، إلا ان هناك قيماً اخلاقية تكاد تكون مشتركة لدى جميع الشعوب مثل (( الصدق ، وعدم الغش ، واحترام الكبير ، وبر الوالدين ، وتقدير المرأة )) وغيرها من القيم التي يجمع العقل الإنساني السليم على انها من الفضائل .

وعلى النقيض فإن (( الكذب ، والخيانة ، والسرقة ، والظلم )) تُعد من الرذائل أينما وجد الإنسان .

تنشأ الاخلاق في المجتمعات من مزيج من الديانات والأعراف والتقاليد والتجارب التاريخية ، لذلك تختلف التفاصيل من مجتمع إلى آخر ، لكنها تجتمع في جوهرها على تعزيز التعايش والتعاون والاحترام المتبادل ، فالأخلاق تمثل انعكاساً لوعي المجتمع وهويته .

لا يمكن بناء مجتمع سليم دون قاعدة اخلاقية صلبة .

فالقانون وحده لا يكفي ما لم يدعم بمنظومة قيم تحفظ الضمير الجمعي وتضبط السلوك العام ، واذا ما تلاشت الاخلاق تفككت المجتمعات وانهارت الدول ، مهما بلغت من تطور مادي او امتلاك للثروات .

لا يمكن لاي مجتمع ان يستقر او يتطور دون وجود منظومة اخلاقية تحكم العلاقات بين الافراد .

فالأخلاق هي الضامن للاستقرار ، والركيزة التي تبنى عليها القوانين والنظم .

وحين تضعف الاخلاق ، ينتشر الفساد ، وتضيع الحقوق ، وتسود الفوضى ، مما يؤدي في النهاية إلى انهيار المجتمعات مهما كانت غنية او متقدمة تقنياً ، فالرقي المادي دون قيم اخلاقية يؤدي إلى الانهيار الداخلي والانحلال .

كان العراق قبل الغزو الأمريكي عام ( 2003 ) يتمتع بمنظومة قيمية واخلاقية متينة مستمدة من تنوعه الديني ، وعلى وجه الخصوص من القيم الإسلامية ، إلى جانب ارثه الحضاري وعاداته وتقاليده المتجذرة .

هذه المنظومة كانت تمثل قوة داخلية ساهمت في بناء الإنسان العراقي وصموده وتقدمه ، رغم كل التحديات والظروف الصعبة .

لكن الغزاة لم يكتفوا بتدمير البنية التحتية ، بل استهدفوا الإنسان ومنظومته القيمية بشكل منهجي ، فزرعوا الفساد المالي والإداري ، وعمقوا الطائفية ، ونشروا الفوضى الاخلاقية وفتحوا الأبواب امام كل ما يضعف المجتمع ويهينه ، حتى اصبح السلوك غير الاخلاقي في كثير من الاحيان هو القاعدة ، واصبح العراقي يعاني من تشتت قيمي خطير .

وكما قال الشاعر الكبير احمد شوقي :

(( انما الامم الاخلاق ما بقيت فإن هُمُ ذهبت اخلاقهم ذهبوا )) .

حقيقة عميقة اختصر فيها الشاعر ، تاريخ صعود وهبوط الامم ، فالأخلاق ليست مجرد سلوك فردي ، بل هي البنية التحتية التي تحافظ على كيان الامة .

فإذا تآكلت الاخلاق ، اصبحت الدولة كالجسد بلا روح ، تنهار من داخلها حتى وان كانت ظاهرياً قائمة ، وهذا ما نراه اليوم في كثير من المجتمعات التي تراجعت مكانتها بسبب فقدان القيم وسيادة الأنانية والجشع (( العراق مثلاً )) .

ان المجتمع العراقي اليوم يقف على حافة الهاوية لان اخلاقه التي كانت تمثل صمام امانه قد تم استهدافها بشكل مباشر .

لذا لم يعاد بناء هذه المنظومة الاخلاقية ، فان مصير المجتمع سيكون التلاشي والانهيار .

عبر التاريخ ، لم تنهض أمة إلا على اساس متين من القيم والاخلاق ، ولم تسقط أمة إلا بعد ان تآكلت منظومتها الاخلاقية ، فالأخلاق ليست ترفاً فكرياً ، بل هي الضامن للاستقرار والبوصلة التي تهدي الشعوب نحو البناء والتقدم .

وفي واقعنا العربي لا يوجد مثال اكثر وضوحاً وتجلياً لذلك من حالة العراق بعد غزوه عام ( 2003 ) .

منذ اكثر من عشرين عاماً ، وبالتحديد بعد الاحتلال الامريكي للعراق ، تمكنت ايران عبر اذرعها السياسية والمليشياوية من التغلغل داخل مفاصل الدولة العراقية ، ليس فقط لتوسيع نفوذها السياسي ، بل لتنفيذ مشروع اعمق وأكثر خطورة ، تدمير الاقتصاد العراقي وتفكيك المجتمع وتمزيق منظومته القيمية والاخلاقية .

فقد انهك الاقتصاد العراقي ونهبت ثرواته ، وزادت البطالة والفقر بشكل كارثي ، بينما يعيش الملايين تحت خط الفقر في بلد يمتلك ثاني اكبر احتياطي نفطي في العالم ، لم يكن الفساد مجرد نتيجة عشوائية ، بل كان اداة بيد منظومة سياسية وميليشياوية خاضعة لايران ، هدفها نشر الطائفية وإحياء العشائرية ، وتكريس الفوضى ، واضعاف الدولة المركزية ، حتى يتحول العراق إلى ساحة مفتوحة للنفوذ الإيراني .

والأخطر من كل ذلك ان هذه المليشيات لم تكتفِ بالهيمنة الامنية والاقتصادية ، بل استهدفت المنظومة القيمية والاخلاقية للشعب العراقي ، فشوهت المفاهيم الوطنية وأفرغت الدين من محتواه الروحي والانساني ، وروجت لثقافة العنف والانتهازية والفساد حتى باتت الاخلاق استثناء والخوف والفساد والسكوت هي القاعدة .

ولذلك فان إصلاح العراق لا يمكن ان يتم من داخل هذا النظام الفاسد الذي يحكم البلاد بالحديد والنار ، ويمنع اي محاولة حقيقية للتغيير .

ان استعادة العراق ، اخلاقياً وقيمياً واقتصادياً ، تبدأ من اسقاط هذه المنظومة العميلة والمليشياوية ، وبناء نظام وطني مستقل ، يعيد الكرامة للعراقيين ويستنهض قدراتهم لبناء وطن حر كريم .

ان معركة العراق الحقيقية لم تكن فقط على حقوقه النفطية ، بل على ضميره الجمعي وقيمه التي كانت يوماً ما مصدر فخره ، كون المعركة الأخطر ليست مع السلاح ، بل مع تدمير الاخلاق .

واذا ما أراد العراق النهوض من جديد ، فعليه ان يبدأمن الانسان ومن زرع القيم واستعادة ما فقد من فضائل ، لانه لايمكن ان نبني الأوطان بأجساد خاوية من القيم .

واذا أراد العراق ان ينهض من جديد ، فعليه ان يبدأ من الانسان ، من المدرسة ، من الأسرة ، من الاعلام ، وان يعيد بناء منظومة اخلاقية تعيد للمجتمع توازنه وللدولة مكانتها ، فبغير الاخلاق لا بناء ولا وحدة ولا مستقبل ..

 

عمان

13/4/2025

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *