معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1853

الإنتخابات العراقية تحت وصاية السِّلاح والفتوى 

حجم الخط

أ. د. محمد طاقة

عن طريق متابعة ما يجري في الساحة العراقية

عبر وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، يبدو أنّ البلاد مقبلة على انتخابات

جديدة في الحادي عشر من تشرين الثاني / نوفمبر ( 2025) ، إلاّ أنّ هذه الانتخابات ، مثل سابقاتها ، تجري في ظلِّ انقسام حاد بين أطراف العملية السياسية التي تمتلك ميليشيات مسلَّحة وتأتمر بأوامر الحرس الثوري الإيراني ، ممّا جعل الحديث عن انتخابات حرة أقرب إلى الوَهْم من الواقع .

تسعى طهران إلى فرض إجراء الانتخابات في موعدها المحدد ، فيما تراهن واشنطن على ( محمد شياع السوداني ) رئيس مجلس الوزراء بوصفه الورقة الممكنة لتنفيذ أجندتها المتمثلة في ( حل الحشد الشعبي ونزع سلاحه ) وهو ما يضع الانتخابات المقبلة في قلب صراع الإرادات بين القوتين المتحكمتين بمصير العراق .

غير أنّ ما يبعث على الأسى هو أنّ هذه الانتخابات لاتختلف عن سابقاتها في شيء ، اذ تجري بوجوه متكرِّرة ومخرجات معروفة سلفاً

في وقتٍ يزداد فيه وعي الشعب العراقي بأنّ ما يُقدَّم له على أنّه ( ديمقراطية ) ليس سوى مهزلة سياسية لإعادة إنتاج منظومة الفساد ذاتها .

لايُمْكِن الحديث عن إنتخابات نزيهة في بلدٍ

فاقدٍ لسيادته ، تحكمه ثلاث قوى خارجية هي

( أمريكا ، ايران ، إسرائيل) ، فالعراق يعيش تحت وصاية مباشرة وغير مباشرة في قراره السياسي والاقتصادي والعسكري . وبذلك تُصْبِح أيّ عملية انتخابية مجرد واجهة شكلية لشرعنة ما يقرره المحتلون مسبقاً ، لا تعبيراً عن إرادة وطنية حقيقية .

تجري الانتخابات في ظلِّ وجود ميليشيات مسلَّحة تابعة لإيران ، تمتلك القوة المادية والسلاح ، وتَفْرِض إرادتها على الناخبين والمرشحين على حد سواء . ومع بقاء السِّلاح خارج سيطرة الدولة تتحوَّل صناديق الاقتراع إلى ديكور سياسي لاقيمة له ، إذ تُحْسَم النتائج سلفاً بقرار من قيادة الميليشيات والأحزاب الدينية التي تدين بالولاء لطهران .

يعيش العراق في مستنقع من الفساد المالي والإداري والسياسي والأخلاقي قلَّ نظيره في العالم ، فساد متجذِّر تدعمه السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ، ويحظى بغطاء من المرجعيات الدينية وشيوخ العشائر

المستفيدين منه ، في ظلِّ هذا الواقع تُصْبِح الانتخابات أداة لتجديد الشرعية للفساد لا لمواجهته ، وتتحوَّل الديمقراطية إلى ستار تُخفي منظومة النهب المنظَّم للمال العام .

منذ الاحتلال الامريكي عام (2003) فُرِض على العراق دستور غريب عن واقعه الوطني والاجتماعي ، يُكرِّس الطائفية والمحاصصة والعرقية ، ويمزِّق النسيج الوطني بدلاً من توحيده ، وهكذا فإنّ أيَّ انتخابات تجري في ظلِّ هذا الدِّستور ، ليست سوى إستمرار لنظام فاسد قائم على الانقسام والولاءات الفرعية ، لا على المواطنة المتساوية .

تحوَّلت الانتخابات إلى موسم لشراء الأصوات

، إذ تستغل حاجة الفقراء والنازحين والعاطلين مقابل مبالغ زهيدة أو وعود كاذبة ، ومع تفشي الجهل والطائفية، يغيب الوعي السياسي الحقيقي ويُسْتَبْدل بعصبيات مذهبية أو عشائرية تُعيد إنتاج الطبقة الحاكمة ذاتها ، في ظلِّ هذا المُناخ ، لايُمْكِن الحديث عن اختيار حر ، بل عن تلاعب منظَّم بإرادة الشعب .

علماً أنّ جزءا ً كبيراً من الناخبين لا يُصَوِّت بإرادته المستقلة ، بل بناءً على توجيهات وفتاوى تصدر عن مرجعيات دينية ترتبط بدول خارجية . وهكذا تُصْبِح الفتوى سلطة فوق الدِّستور ، والسِّلاح ضمانة فوق القانون ، فيُغيَّب المواطن وتُلغى الإرادة الشعبية لصالح وصاية مزدوجة (دينية ومسلحة ) تُصادر القرار الوطني باسم الدين والمقاومة معاً .

عن طريق استعراض قوائم المرشحين ، يتضح أنّ

معظمهم يفتقر إلى الكفاءة والعلمية والأخلاق الوطنية . كثير منهم من طبقات اجتماعية تبحث عن امتيازات ومناصب ، لا عن الخدمة العامة ، فيما امتلأت قوائم النساء بمرشحات من عالم الإعلام والبرامج الترفيهية لا علاقة لهنّ بالمرأة العراقية المناضلة التي مثّلت رمز الصمود والعطاء عبر التاريخ .

النتائج في العراق لا تفرزها صناديق الاقتراع ، بل تقررها الميليشيات والأحزاب الدينية في الغرف المغلقة . وهكذا تتحوَّل العملية الانتخابية إلى تمثيلية مكرّرة تُكْتَب فصولها سلفاً وتُعْرَض على الشعب بوصفها ممارسة ديمقراطية ، فيما الحقيقة أنّها آلية لإعادة انتاج منظومة الفساد والتبعية .

إنّ ما بجري في العراق منذ عام (2003) ليس انتقالاً ديمقراطياً ، بل خديعة كبرى رُوِّج لها على أنّها تجربة حرة ، فالانتخابات في ظلِّ الاحتلال وغياب السِّيادة والدِّستور الطائفي والنظام الفاسد لايُمْكِن أنْ تَفْرِز إلاّ واقعاً أكثر تشوهاً .

إنّ ( وصاية السلاح والفتوى ) تُمَثِّل اليوم العائق الأكبر أمام بناء دولة المواطنة والقانون ، إذ تُخْتَزل الإرادة الشعبية في صوت مرتهن للخارج ، وتلغى الديمقراطية باسم ( الشرعية الثورية) أو ( المرجعية الدينية ) . والمطلوب منّا اليوم مقاطعة هكذا انتخابات غير شرعية للأسباب التي ذكرناها ، بل المطلوب منّا ليس تبديل الوجوه داخل البرلمان ، بل إعادة النظر جذرياً في العملية السياسية برمتها ، واستعادة القرار الوطني المستقل ، وبناء ديمقراطية حقيقية تقوم على المواطنة الواعية لا الطائفية وعلى العقل لا على الصُّندوق وحده . فالشعب الذي صودرت إرادته بالسِّلاح والفتوى لا يُمْكِن أنْ يتحرَّر إلاّ بوعي يَرْفُض الوصاية ويستعيد الوطن .

عمان

1/11/2025

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *