أ. د. محمد طاقة
عندما نعود إلى التاريخ الأوربي ، وتحديداً إلى العصور الوسطى ، نجد ان الكنيسة المسيحية
قد لعبت دوراً كبيراً في السيطرة على المجتمعات ، فكرياً ومادياً . فقد تحالفت مع الإقطاع ، واحتكرت تفسير الدين ، وواجهت العقل والعلم بالرفض والاضطهاد ، واصدرت ((صكوك الغفران ))لابتزاز الفقراء والمحرومين .
واذا ما أسقطنا هذا المشهد التاريخيّ على واقعنا العربي الإسلامي الراهن ، نرى بوضوح ان الإسلام السياسي ، بمختلف اجنحته ، يعيد انتاج تجربة الكنيسة في العصور المظلمة ، ولكن بأدوات وأسماء مختلفة ، فهل نحن بحاجة إلى (( مارتن لوثر)) عربي يصرخ في وجه المؤسسة الدينية ويطالب باصلاح حقيقي كما فعل في اوربا قبل اكثر من خمسة قرون ؟ .
في القرون الوسطى ، تحالفت الكنيسة مع الطبقة الإقطاعية فشكلت بذلك سلطة مزدوجة دينية اقتصادية ، عمقت التفاوت الطبقي وأسهمت في إدامة معاناة الإنسان الأوربي ، واليوم يتحالف الإسلام السياسي مع الرأسمال الوطني والعالمي ، في صورة من صور التبعية السياسية والاقتصادية ، تُسخّر فيها الشعارات الدينية لخدمة السلطة والثروة و النفوذ ، كما استغلت الكنيسة الدين لمصالحها الشخصية والسياسية ، يستغل الإسلام السياسي الدين اليوم لاهداف مماثلة .
فالسلطة الدينية لا تكتفي بتفسير النصوص ، بل تحتكر الحقيقة ، وتوظف الدين اداة لتبرير السياسات ، وتكريس السلطة باسم (الشرع ) و( الطاعة ) فتمنح الشرعية لانظمة القمع والتجهيل .
كانت الكنيسة تبيع (صكوك الغفران ) للناس ، بزعم منحهم الخلاص ، فيما نرى اليوم مؤسسات دينية تفرض (( الخُمس)) على اتباعهم باسم النصوص ، دون ان تعود هذه الاموال بأي منفعة عامة ، بل تذهب إلى جيوب رجال الدين والمؤسسات الدينية المتخمة بالامتيازات ، في حين يعاني المجتمع
من الفقر والبطالة والمرض ، وتُهمل البنية التحتية والخدمات الأساسية .
حاربت الكنيسة العلماء والمفكرين ، واضطهدت كل من حاول التفكير خارج صندوقها ، الأمر الذي أدى إلى عصور الجهل والانغلاق .
وبالمنهج نفسه ، يقف الإسلام السياسي اليوم ضد العقلانية ، ويرفض النقد ، ويحارب المثقفين ، ويضطهد الأصوات الحرة تحت ذرائع ( الكفر ، والانحراف ، والفتنة ) .
سادت اوربا في العصور الوسطى حالة من التخلف والجمود ، بسبب الفكر الكنسي المنغلق ، واليوم تروج احزاب الإسلام السياسي للخرافة ، وتشييع ثقافة الشعوذة والسحر والغيبيات ، وتضع العقبات امام التعليم والعلم الحديث ، وتُمعن في تجهيل المجتمعات بوسائل مختلفة ، من منابر المساجد إلى المناهج الدراسية والإعلام الحزبي .
رفضت الكنيسة كل محاولة للتجديد والحداثة ، واعتبرتها تهديداً لسلطتها . وبالمنطق نفسه ، يقف الإسلام السياسي موقفاً عدائياً من التقدم ، ويحارب كل فكر معاصر ، رافضاً مفاهيم مثل الدولة المدنية
وحقوق الإنسان ، والعدالة الاجتماعية ، متمسكاً بنماذج سلطوية متخلفة كتجربة (( ولاية الفقيه )) التي تسعى إلى إقامة دولة ثيوقراطية تستبدل القانون بالفتوى ، والحقيقة بالعقيدة ، والعقل بالخرافة .
ان الإسلام السياسي ، بما يحمله من افكار وممارسات قد استنسخ حرفياً الأسلوب الذي تبنته الكنيسة قبل اكثر من خمسة قرون .
وكأن التاريخ يعيد نفسه ، ولكن بشكل اكثر مأساوية ، إذ يحدث هذا في عصر التكنولوجيا
والذكاء الاصطناعي ، حيث تتسابق الامم نحو الابتكار والتقدم ، بينما مازالت عقول من يحكمون العراق غارقة في فكر غيبي متحجر يعادي العقل والحداثة .
فكيف لعقلية كهذه تقود بلداً غنياً بالتاريخ والثروات والطاقات البشرية كالعراق ؟ وكيف سمح المحتلون بعد عام (2003) لهؤلاء ان يستلموا السلطة ، ويهيمنوا على مقدرات الدولة والمجتمع ؟ ألا يدفع هذا للتساؤل
عما إذا كانت هذه الفوضى ستبقي العراق في دوامة التخلف والانقسام .
أن ما يعيق تطور الدولة والمجتمع في بلداننا ، وعلى وجه الخصوص في العراق ، هو استمرار هيمنة المؤسسات الدينية ورجال الدين وأحزاب الإسلام السياسي على مفاصل الحياة .
فهذه القوى المناهضة للدستور والعدالة وحقوق الإنسان ، ما زالت تزرع الجهل وتُشرعن التخلف وتنتج التطرف والعنف والارهاب باسم الدين .
لقد آن الأوان لصرخة إصلاح جديدة ، كما صرخ( مارتن لوثر) قبل اكثر من خمسة قرون ، نحن بحاجة إلى من يكشف زيف السلطة الدينية ، ويطالب بفصل الدين عن السياسة ، واعادة الاعتبار للعقل والعلم والانسان ، فهل يخرج لنا ( مارتن لوثر) عراقي يضع حداً لهذه المهزلة ؟
عمان
10/6/2025