معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1853

الإسلام السياسي واعادة انتاج عصور الظلام (( مقارنة بين الكنيسة في العصور الوسطى والاسلام السياسي اليوم ))

حجم الخط

أ. د. محمد طاقة

عندما نعود إلى التاريخ الأوربي ، وتحديداً إلى العصور الوسطى ، نجد ان الكنيسة المسيحية
قد لعبت دوراً كبيراً في السيطرة على المجتمعات ، فكرياً ومادياً . فقد تحالفت مع الإقطاع ، واحتكرت تفسير الدين ، وواجهت العقل والعلم بالرفض والاضطهاد ، واصدرت ((صكوك الغفران ))لابتزاز الفقراء والمحرومين .
واذا ما أسقطنا هذا المشهد التاريخيّ على واقعنا العربي الإسلامي الراهن ، نرى بوضوح ان الإسلام السياسي ، بمختلف اجنحته ، يعيد انتاج تجربة الكنيسة في العصور المظلمة ، ولكن بأدوات وأسماء مختلفة ، فهل نحن بحاجة إلى (( مارتن لوثر)) عربي يصرخ في وجه المؤسسة الدينية ويطالب باصلاح حقيقي كما فعل في اوربا قبل اكثر من خمسة قرون ؟ .
في القرون الوسطى ، تحالفت الكنيسة مع الطبقة الإقطاعية فشكلت بذلك سلطة مزدوجة دينية اقتصادية ، عمقت التفاوت الطبقي وأسهمت في إدامة معاناة الإنسان الأوربي ، واليوم يتحالف الإسلام السياسي مع الرأسمال الوطني والعالمي ، في صورة من صور التبعية السياسية والاقتصادية ، تُسخّر فيها الشعارات الدينية لخدمة السلطة والثروة و النفوذ ، كما استغلت الكنيسة الدين لمصالحها الشخصية والسياسية ، يستغل الإسلام السياسي الدين اليوم لاهداف مماثلة .
فالسلطة الدينية لا تكتفي بتفسير النصوص ، بل تحتكر الحقيقة ، وتوظف الدين اداة لتبرير السياسات ، وتكريس السلطة باسم (الشرع ) و( الطاعة ) فتمنح الشرعية لانظمة القمع والتجهيل .
كانت الكنيسة تبيع (صكوك الغفران ) للناس ، بزعم منحهم الخلاص ، فيما نرى اليوم مؤسسات دينية تفرض (( الخُمس)) على اتباعهم باسم النصوص ، دون ان تعود هذه الاموال بأي منفعة عامة ، بل تذهب إلى جيوب رجال الدين والمؤسسات الدينية المتخمة بالامتيازات ، في حين يعاني المجتمع
من الفقر والبطالة والمرض ، وتُهمل البنية التحتية والخدمات الأساسية .
حاربت الكنيسة العلماء والمفكرين ، واضطهدت كل من حاول التفكير خارج صندوقها ، الأمر الذي أدى إلى عصور الجهل والانغلاق .
وبالمنهج نفسه ، يقف الإسلام السياسي اليوم ضد العقلانية ، ويرفض النقد ، ويحارب المثقفين ، ويضطهد الأصوات الحرة تحت ذرائع ( الكفر ، والانحراف ، والفتنة ) .
سادت اوربا في العصور الوسطى حالة من التخلف والجمود ، بسبب الفكر الكنسي المنغلق ، واليوم تروج احزاب الإسلام السياسي للخرافة ، وتشييع ثقافة الشعوذة والسحر والغيبيات ، وتضع العقبات امام التعليم والعلم الحديث ، وتُمعن في تجهيل المجتمعات بوسائل مختلفة ، من منابر المساجد إلى المناهج الدراسية والإعلام الحزبي .
رفضت الكنيسة كل محاولة للتجديد والحداثة ، واعتبرتها تهديداً لسلطتها . وبالمنطق نفسه ، يقف الإسلام السياسي موقفاً عدائياً من التقدم ، ويحارب كل فكر معاصر ، رافضاً مفاهيم مثل الدولة المدنية
وحقوق الإنسان ، والعدالة الاجتماعية ، متمسكاً بنماذج سلطوية متخلفة كتجربة (( ولاية الفقيه )) التي تسعى إلى إقامة دولة ثيوقراطية تستبدل القانون بالفتوى ، والحقيقة بالعقيدة ، والعقل بالخرافة .
ان الإسلام السياسي ، بما يحمله من افكار وممارسات قد استنسخ حرفياً الأسلوب الذي تبنته الكنيسة قبل اكثر من خمسة قرون .
وكأن التاريخ يعيد نفسه ، ولكن بشكل اكثر مأساوية ، إذ يحدث هذا في عصر التكنولوجيا
والذكاء الاصطناعي ، حيث تتسابق الامم نحو الابتكار والتقدم ، بينما مازالت عقول من يحكمون العراق غارقة في فكر غيبي متحجر يعادي العقل والحداثة .
فكيف لعقلية كهذه تقود بلداً غنياً بالتاريخ والثروات والطاقات البشرية كالعراق ؟ وكيف سمح المحتلون بعد عام (2003) لهؤلاء ان يستلموا السلطة ، ويهيمنوا على مقدرات الدولة والمجتمع ؟ ألا يدفع هذا للتساؤل
عما إذا كانت هذه الفوضى ستبقي العراق في دوامة التخلف والانقسام .
أن ما يعيق تطور الدولة والمجتمع في بلداننا ، وعلى وجه الخصوص في العراق ، هو استمرار هيمنة المؤسسات الدينية ورجال الدين وأحزاب الإسلام السياسي على مفاصل الحياة .
فهذه القوى المناهضة للدستور والعدالة وحقوق الإنسان ، ما زالت تزرع الجهل وتُشرعن التخلف وتنتج التطرف والعنف والارهاب باسم الدين .
لقد آن الأوان لصرخة إصلاح جديدة ، كما صرخ( مارتن لوثر) قبل اكثر من خمسة قرون ، نحن بحاجة إلى من يكشف زيف السلطة الدينية ، ويطالب بفصل الدين عن السياسة ، واعادة الاعتبار للعقل والعلم والانسان ، فهل يخرج لنا ( مارتن لوثر) عراقي يضع حداً لهذه المهزلة ؟

عمان

10/6/2025

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *