أ. د. محمد طاقة
تتصاعد حدة الجدل بين العراق والكويت حول خور عبد الله ، في سياق سياسي وقانوني تتداخل فيه الجغرافية بالتاريخ ، والمواقف الوطنية بالضغوط الإقليمية والدولية ، ولأن الخطابات الإعلامية كثيراً ما تغفل الحقائق الموضوعية ، تأتي هذه المقالة لتسليط الضوء على أبعاد قضية خور عبد الله من منظور وطني عراقي ، مستندة على معطيات تاريخية وجغرافية واقتصادية بعيدة عن المزايدات ، لكنها راسخة في الدفاع عن السيادة الوطنية .
يقع خور عبد الله في أقصى جنوب غرب العراق ، ويمثل الممر البحري الذي يفصل شبه جزيرة الفاو عن جزيرة بوبيان .
تكمن أهميته الجغرافية في كونه المنفذ البحري الوحيد للعراق . حيث تمر عبره السفن القادمة إلى موانيء ام قصر وخور الزبير . يبلغ طول الخور نحو (80 كم ) وعرضه بين (1،5-4 كم ) مما يسمح بمرور السفن ذات الغاطس الكبير . ويقع اكثر من نصفه داخل الأراضي العراقية . كما ان الحكومة العراقية كانت تسيطر عليه فعلياً قبل الاحتلال الامريكي للعراق عام (2003)، ولم تكن هناك أي اتفاقيات ترسيم حدود بحرية مع الكويت قبل عام (1993).
يعد خور عبدالله شرياناً حيوياً للعراق ، إذ يعد الممر الملاحي الوحيد الذي يربط العراق بالعالم بحراً ويؤدي إلى موانيء ام قصر وخور الزبير ، الذي تعد بوابات العراق الرئيسية لتصدير النفط واستيراد البضائع .
كانت صادرات النفط عبر خور عبد الله في أبريل عام (2025) ، اكثر من (91) مليون برميل غالبيته عبر موانيء البصرة التي تعتمد على خور عبد الله كممر ملاحي رئيسي .
كثيراً ما يضخم البعض اهمية خور عبد الله الاقتصادية على انه ( شريان حياة العراق ) إلا ان هذه الصورة لا تعكس الواقع الاقتصادي العراقي اليوم في ظل حكومات الاحتلال ، كون الاقتصاد العراقي اقتصاداً ريعياً بالكامل ، العراق يعتمد على النفط بنسبة تفوق ال (90% ) من الإيرادات العامة وقرابة ال ( 98% ) من صادراته ، وهذا يعني ان اي قطاع آخر ( صناعة ، زراعة ، خدمات ، سياحة ) هو قطاع هامشي أو مشلول فعلياً .
فمن الناحية الفعلية لا يوجد اقتصاد إنتاجي حقيقي في العراق ، الصناعة المحلية مدمرة بعد الاحتلال ولا توجد بنية تحتية صناعية فاعلة ، اذ لا يسهم هذا القطاع باكثر من ( 1،8% ) من الناتج المحلي الاجمالي ( حسب بيانات البنك الدولي لعام 2023 ) ، كما ان الزراعة انهارت بسبب شحة المياه وتدهور البذور وضعف الدعم الحكومي ، وتمثل اقل من (5%) من الناتج المحلي الاجمالي ، اما قطاع الخدمات يعتمد على الإنفاق الحكومي الممول من النفط وليس على الانتاج الفعلي أو استثمار حقيقي .
وعليه فإن اهمية خور عبد الله تقتصر اساساً على نقل الصادرات النفطية لأغير ، والعراق يمتلك منافذ بديلة نسبياً ، مثل خط انابيب جيهان التركي والموانيء في البصرة والممرات البرية . فإن تحليلنا بأن اهمية خور عبد الله تنحصر في النفط فقط ، وذلك بسبب غياب صادرات صناعية او زراعية تمر عبره ، وان اكثرية الاستيرادات يتم من دول الجوار كايران وتركيا وبقية الدول العربية عبر البر اساساً، وان ميناء ام قصر يستخدمه العراق اساساً لاستيراد البضائع القادمة من الشرق الأقصى (الصين ، كوريا ، والهند ) وهذه البضائع لا تشكل سوى (10%) من مجمل الإيرادات .
لكن لو تم إغلاق الخور ، فأن العراق لن يتمكن من تصدير نفطه البحري عبر البصرة ، مما يؤدي إلى توقف صادرات النفط ، وسيؤدي إلى ازمة مالية لانه مصدر للعملة الصعبة .
وكما ذكرنا ان العراق لايملك اقتصاداً انتاجياً حقيقياً ، وبالتالي فان إغلاق خور عبد الله لن يؤثر على اقتصاد متنوع لانه غير موجود أصلاً ، ولكن خور عبد الله هو الوريد الوحيد المتبقي للاقتصاد الريعي . غلقه يعني اختناق الاقتصاد ، لان النفط هو شريان الحياة الوحيد
ومن هنا فان أثر خور عبد الله في الوقت الحاضر يقتصر على قناة تصدير النفط الخام ولا علاقة له بصادرات صناعية او زراعية او تجارية ، لانها ببساطة غير موجودة ، اما واردات العراق فاغلبها تاتي من دول الجوار عبر البر وعلى رأسها ايران وتركيا .
العراق يستورد من ايران سلعاً ، غذائية وكهرباء ومواد بناء ومنتجات استهلاكية وغيرها ، حيث وصل حجم التبادل التجاري إلى (30) مليار دولار لصالح ايران ، وهذا يجعل الاقتصاد العراقي تابعاً اقتصادياً بشكل خطير إلى إيران ، مع انعدام الصادرات العراقية نحو ايران .
كما بلغ اجمالي الصادرات التركية إلى العراق عام ( 2023 ) مبلغاً قدره ( 12،8) مليار دولار ، ووفقاً لتصريحات وزير التجارة التركي ، هناك توقعات بزيادة الصادرات التركية إلى العراق لتصل إلى (15) مليار دولار في المستقبل القريب . وعلى هذا الاساس فان مجموع الواردات العراقية من ايران وتركيا سنوياً ما بين (43-45 ) مليار دولار ، وهذا يعني ان اكثر من نصف واردات العراق تاتي من دول الجوار عبر طريق البر وليس عبر البحر او خور عبد الله . بالاضافة إلى واردات العراق من ايران وتركيا ، هنالك واردات اخرى تاتي عبر المنافذ البرية ومن دول عربية مثل الأردن والسعودية وسوريا وغيرها ، حيث بلغت صادرات غرفة صناعة عمان إلى العراق ما يعادل ( 1،37)مليار دولار ، وفي عام (2023) بلغت صادرات السعودية إلى العراق حوالي ( 1،29) مليار دولار ومن سوريا حوالي (18%) من اجمالي واردات العراق . وبناءً على هذه الأرقام يمكن تقدير ان واردات العراق من الأردن والسعودية وسوريا تتراوح ما بين ( 3،5- 4 ) مليارات دولار سنويا ، واذا أضفناها إلى واردات العراق من ايران وتركيا ، يصبح اجمالي الواردات من دول الجوار حوالي (50)
مليار دولار وعلى هذا الاساس ان اهمية خور عبد الله اليوم لا تكمن في كونه قناة للواردات ، بل في كونه شرياناً لتصدير النفط فقط ، وكما لاحظنا ان معظم هذه الواردات تتم عبر المنافذ البرية ، مما يقلل من اهمية الموانيء البحرية مثل الخور في الوقت الحالي .
ولكن في حال وجود نظام وطني مستقل يتبنى مشروعاً للتنمية المستدامة ويعمل على اعادة بناء الصناعة والزراعة والتجارة البحرية ويعيد للاقتصاد العراقي حيويته ويجعله منتجا حقيقيا ً ، فإن خور عبد الله سيتحول إلى مسألة وجودية ، وستكون السيادة عليه مسألة أمن قومي . لما له من اثر على تدفق السلع وتموضع العراق على خريطة التجارة العالمية ، وربطه بالموانيء الدولية عبر مشروع الفاو والطريق البحري – البري نحو اوربا . خور عبد الله يعد الممر الملاحي الأساسي الذي يربط العراق بالخليج العربي ، مما يجعله ذا اهمية استراتيجية كبيرة في تامين تدفق الوردات من الدول غير المجاورة ، وان اي تعطيل في هذا الممر قد يؤدي إلى تاخير او توقف في وصول السلع الأساسية ، مما يؤثر سلباً على الاقتصاد العراقي
ان التنازل عن خور عبد الله أو حتى التسليم بتحويله إلى مياه مشتركة ، تحت ضغط قرارات اممية صيغت في لحظة ضعف سيادي عراقي يعد تنازلاً عن السيادة ، كما ان التفريط باي جزء من الارض او المياه العراقية ولو تحت مسمى التنظيم الملاحي، يفتح باب لتنازلات اكبر في المستقبل سواء في الفاو او شط العرب او غيرها من المناطق الحساسة .
خور عبد الله ليس مجرد ممر مائي ، بل هو رمز للسيادة الوطنية وتاريخ من الاستقلال ، وحق من حقوق الجغرافيا والتاريخ ، ان الدفاع عن الخور لا يعني رفض التعاون الإقليمي ، بل يعني فقط احترام الحدود الحقيقية وعدم التنازل عنها تحت اي ذريعة سياسية او اقتصادية .
فالعراق رغم ضعفه الحالي ، لايمكن ان يرهن مستقبله الجغرافي بقرارات ولدت في زمن الاحتلال والفراغ السياسي ، بل يجب ان يستعيد كامل حقوقه السيادية وفي مقدمتها خور عبد الله .
برلين
18/5/2025