معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين بالرقم 1853

أنصاف المثقفين ومصطلحات التبعية (( المصطلحات التي تأتينا من الغرب الامبريالي )) 

حجم الخط

أ. د. محمد طاقة

في عالم تسيطر فيه الماكنة الإعلامية والثقافية الغربية على انتاج المعاني والمفاهيم ، تدفق علينا نحن شعوب العالم العربي، سيل من المصطلحات التي تبدو براقة وجذابة للوهلة الاولى ، حتى اصبحت هذه المفاهيم سيدة الخطاب السياسي والثقافي ، دون ان يتوقف الكثيرون ليتأملوا معناها الحقيقي ، أو ليتساءلوا عن الجهة المستفيدة من رواجها .

المشكلة لا تكمن فقط في المصطلحات بل في أنصاف المثقفين الذين يتلقفونها من الغرب باعتبارها حقائق مطلقة ، ويتعاملون معها كأنها مسلمات لا تقبل النقاش ، متناسين ان تلك المصطلحات ليست إلا ادوات ناعمة لاعادة تشكيل وعي المجتمعات ، بما يخدم المصالح الإمبريالية والرأسمالية العالمية ، التي مازالت تتحكم بمصير الشعوب ، وتعيد انتاج التبعية من بوابة (( الفكر المستنير )) .

من ابرز هذه الشعارات التي أغرق بها العالم العربي (( الديمقراطية وحقوق الإنسان )) ، تلك المفاهيم التي تم استخدامها كذريعة لتدمير دول بأكملها ، العراق مثال صارخ ، حيث تم اجتياحه واحتلاله باسم الديمقراطية ، وتفكيك دولته وجيشه ومجتمعه بذريعة حقوق الانسان ، في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تمارس ابشع الانتهاكات بحق الشعب العراقي ، و بحق شعوبها ايضاً .

لا ديموقراطية حقيقية في الغرب عندما يتعلق الأمر بفلسطين ولا حقوق إنسان حين تباد شعوب بأكملها ، بل تستخدم هذه المفاهيم كسياط تضرب بها الدول التي تقاوم الهيمنة، ويصنف كل من يعارض المشروع الامبريالي الصهيوني (( كدكتاتور أو ارهابي )) بينما يصور المستعمر (( كناشر للحرية )) .

وتحت شعار ((الإصلاح الاقتصادي)) رُوّج في العالم العربي لمصطلحين خطيرين (( الخصخصة والعولمة)) ، فرضت الخصخصة على دولنا كمفتاح للنهضة ، لكنها كانت بوابة لتجريد الدولة من أدواتها الاقتصادية وبيع ثرواتها للشركات العابرة للقارات ، تحولت الخدمات الأساسية إلى سلع وزاد الفقر والبطالة ، واختفت الدولة الاجتماعية . أما العولمة فقد وعدت بالتكامل والانفتاح ، لكنها في الحقيقة جعلت من دولنا أسواقاً استهلاكية تابعة . ومن شعوبنا مجرد عمالة رخيصة أو مستهلكين في هوامش النظام الرأسمالي العالمي، لم تكن العولمة بوابة للتطور ، بل وسيلة لتعميق التبعية واعادة انتاج التخلف .

ومن اكثر المصطلحات التي جرى التلاعب بها

(( نظرية المؤامرة )) ، حيث يتم تسفيه كل محاولة لفهم الواقع العربي كنتاج لمؤامرات فعلية تحاك ضد الامة العربية ، يتهم من يتحدث عن المؤامرة بأنه رجعي ، رافض للتطور ، مؤمن بالخرافات ، بينما الوقائع

تقول عكس ذلك . ان الذي يحدث في فلسطين والعراق وسوريا واليمن ولبنان ، هو نتاج مؤامرة كبرى تدار بادوات عسكرية وإعلامية واقتصادية ؟ كيف يمكن فهم هذا التدمير الممنهج للامة العربية دون الإقرار

بوجود مشروع دولي – صهيوني – إمبريالي ، يستهدف تفكيك المنطقة وتقسيمها واضعاف قواها الحية ؟ المؤامرة ليست وهماً ، بل واقعاً ملموساً تؤكده الاحداث ويغض الطرف عنه أنصاف المثقفين خدمة لجهات لا تخفى .

لم يكتفِ الغرب الامبريالي بترويج المصطلحات السياسية والاقتصادية بل تعداها إلى تفكيك البنية الاخلاقية والاجتماعية للمجتمعات العربية ، رُوّج لمصطلحات مثل (( المثلية الجنسية )) تحت شعار (( الحرية الشخصية )) دون مراعاة لخصوصية ثقافية أو دينية ، وسوقت الطائفية والمناطقية لتفتيت الوحدة الوطنية .

اصبح من يدافع عن بلده أرهابياً ، ومن يطالب باستقلال القرار الوطني رجعياً ، وتحول الإسلام إلى مرادف للعنف في الخطاب الغربي ، انها فعلاً حرب مفاهيمية ناعمة ، هدفها تفكيك الهوية وتفريغ الشعوب من روحها النضالية .

ليست المصطلحات مجرد كلمات بل هي حاملات لبرامج ومشاريع وتوجهات فكرية سياسية واقتصادية واجتماعية ، من يتبناها دون تمحيص يصبح اداة في مشروع لا يفهمه

علينا ان نمتلك شجاعة النقد وجرأة التساؤل

ووضوح الموقف ، وان نعيد بناء وعينا على اسس معرفية وطنية ، تستلهم التاريخ وتفهم الواقع ، لا ان تتبع الغرب انبهاراً أو انهزاماً .

إن اخطر ما نواجهه اليوم ليس فقط الاحتلال أو الفقر والبطالة ، بل الغزو الفكري الذي تمارسه المصطلحات الوافدة عبر بوابة أنصاف المثقفين الذين لا يميزون بين التنوير والتسطيح بين الحداثة والتبعية بين النقد والانبهار أن المصطلحات التي تصدر الينا من الغرب الامريالي ، ليست بريئة كما تبدو ، بل هي ادوات ناعمة للهيمنة والسيطرة وتفكيك المجتمعات ، علينا ان نتعامل معها بوعي ونقد ، لا بانبهار واستسلام وان نعيد انتاج فكرنا ومفاهيمنا من واقعنا وتجربتنا وتاريخنا ، لا من قوالب مفروضة تخدم الاخر وتدمر الذات .

 

عمان

26/4/2025

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *